تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقا من غير أب كآدم ، ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة وهو كونه لا أم له : كما أنه لا أب له ، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه وأعظم عجبا وأغرب أسلوبا . وقوله : خلقه من تراب جملة مفسرة لما أبهم في المثل ; أي : أن آدم لم يكن له أب ولا أم ، بل خلقه الله من تراب . وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من غير أب مع اعترافه بأن آدم خلق من غير أب وأم .
قوله : ثم قال له كن فيكون أي كن بشرا فكان بشرا .
وقوله : فيكون حكاية حال ماضية ، وقد تقدم تفسير هذا . وقوله : الحق من ربك قال الفراء : هو مرفوع بإضمار هو .
وقال أبو عبيدة : هو استئناف كلام وخبره قوله : " من ربك " وقيل : هو فاعل فعل محذوف ; أي : جاءك الحق من ربك . قوله : فلا تكن من الممترين الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس ; أي : لا يكن أحد منكم ممتريا ، أو للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ويكون النهي له لزيادة التثبيت لأنه لا يكون منه شك في ذلك .
قوله : فمن حاجك فيه هذا وإن كان عاما فالمراد به الخاص ، وهم النصارى الذين وفدوا إليه صلى الله عليه وآله وسلم من نجران كما سيأتي بيانه ، ويمكن أن يقال هو على عمومه وإن كان السبب خاصا ، فيدل على جواز المباهلة منه صلى الله عليه وآله وسلم لكل من حاجه في عيسى عليه السلام ، وأمته أسوته ، وضمير فيه لعيسى ، والمراد بمجيء العلم هنا مجيء سببه ، وهو الآيات البينات ، والمحاجة : المخاصمة والمجادلة . وقوله : ( تعالوا ) أي : هلموا وأقبلوا ، وأصله الطلب لإقبال الذوات ، ويستعمل في الرأي إذا كان المخاطب حاضرا كما تقول لمن هو حاضر عندك : تعال ننظر في هذا الأمر .
قوله : ( ندع أبناءنا ) إلخ . اكتفي بذكر البنين عن البنات ، إما لدخولهن في النساء ، أو لكونهم الذين يحضرون مواقف الخصام دونهن ، ومعنى الآية : ليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة . وفيه دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء لكونه صلى الله عليه وآله وسلم أراد بالأبناء الحسنين كما سيأتي .
قوله : ( نبتهل ) أصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره ، يقال بهله الله ; أي : لعنه ، والبهل اللعن . قال أبو عبيد والكسائي : نبتهل نلتعن ، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك ، ومنه قول لبيد :
في كهول سادة من قومه نظر الدهر إليهم فابتهل
أي : فاجتهد في هلاكهم .
قال في الكشاف : ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا . قوله : فنجعل لعنة الله على الكاذبين عطف على نبتهل مبين لمعناه .
قوله : " إن هذا " أي الذي قصه الله على رسوله من نبأ عيسى لهو القصص الحق القصص التتابع ، يقال : فلان يقص أثر فلان ; أي : يتبعه ، فأطلق على الكلام الذي يتبع بعضه بعضا ، وضمير الفصل للحصر ، ودخول اللام عليه لزيادة تأكيده ويجوز أن يكون مبتدأ ، وما بعده خبره ، وزيادة من في قوله : " من إله " لتأكيد العموم ، وهو رد على من قال بالتثليث من النصارى . [ ص: 223 ] وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث حذيفة : أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأراد أن يلاعنهما ، فقال أحدهما لصاحبه : لا نلاعنه ، فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا نحن ولا عقبنا من بعدنا ، فقالوا له : نعطيك ما سألت ، فابعث معنا رجلا أمينا ، فقال : قم يا أبا عبيدة ، فلما قام قال : هذا أمين هذه الأمة .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس : أن رهطا من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان فيهم السيد والعاقب ، فقالوا : ما شأنك تذكر صاحبنا ؟ قال : من هو ؟ قالوا : عيسى تزعم أنه عبد الله ، قالوا : فهل رأيت مثل عيسى وأنبئت به ، ثم خرجوا من عنده ، فجاء جبريل فقال : قل لهم إذا أتوك إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم إلى آخر الآية . وقد رويت هذه القصة على وجوه عن جماعة من التابعين .
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال : قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم العاقب والسيد ، فدعاهما إلى الإسلام فقالا : أسلمنا يا محمد ، فقال : كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام ، قالا : فهات . قال : حب الصليب ، وشرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير . قال جابر : فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على الغد ، فغدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه وأقرا له ، فقال : والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا . قال جابر : فيهم نزلت تعالوا ندع أبناءنا الآية .
قال جابر : أنفسنا وأنفسكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي ، وأبناءنا الحسن والحسين ، ونساءنا فاطمة " . ورواه أيضا الحاكم من وجه آخر عن جابر وصححه ، وفيه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : هل لك أن نلاعنك ؟ وأخرج مسلم والترمذي وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص قال : لما نزلت هذه الآية ( قل تعالوا ) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي .
وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه تعالوا ندع أبناءنا الآية قال فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن ابن عباس ثم نبتهل نجتهد .
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : هذا الإخلاص يشير بأصبعه التي تلي الإبهام ، وهذا الدعاء ، فرفع يديه حذو منكبيه ، وهذا الابتهال فرفع يديه مدا


