كان قوله إن يدعون بيانا لقوله فقد ضل ضلالا بعيدا ، وأي ضلال أشد من أن يشرك أحد بالله غيره ثم أن يدعي أن شركاءه إناث ، وقد علموا أن الأنثى أضعف الصنفين من كل نوع .
وأعجب من ذلك أن يكون هذا صادرا من العرب ، وقد علم الناس حال المرأة بينهم ، وقد حرموها من حقوق كثيرة واستضعفوها . فالحصر في قوله إن يدعون من دونه إلا إناثا قصر ادعائي لأنه أعجب أحوال إشراكهم ، ولأن أكبر آلهتهم يعتقدونها أنثى وهي : اللات والعزى ، ومناة ، فهذا كقولك لا عالم إلا زيد . وكانت العزى لقريش ، وكانت مناة للأوس والخزرج ، ولا يخفى أن معظم المعاندين للمسلمين يومئذ كانوا من هذين الحيين : مشركو قريش هم أشد الناس عداء للإسلام ، ومنافقو المدينة ومشركوها أشد الناس فتنة في الإسلام .
ومعنى وإن يدعون إلا شيطانا مريدا : أن دعوتهم الأصنام دعوة للشيطان ، والمراد جنس الشيطان ، وإنما جعلوا يدعون الشيطان لأنه الذي سول لهم عبادة الأصنام .
والمريد : العاصي والخارج عن الملك ، وفي المثل ( تمرد مارد وعز الأبلق ) اسما حصنين للسموأل ، فالمريد صفة مشبهة مشتقة من مرد - بضم الراء - إذا عتا في العصيان .
وجملة لعنه الله صفة لشيطان ، أي أبعده; وتحتمل الدعاء عليه ، لكن المقام ينبو عن الاعتراض بالدعاء في مثل هذا السياق . وعطف وقال لأتخذن عليه يزيد احتمال [ ص: 204 ] الدعاء بعدا .
وسياق هذه الآية كسياق أختها في قوله فاخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم الآية فكلها أخبار . وهي تشير إلى ما كان في أول خلق البشر من تنافر الأحوال الشيطانية لأحوال البشر ، ونشأة العداوة عن ذلك التنافر ، وما كونه الله من أسباب الذود عن مصالح البشر أن تنالها القوى الشيطانية نوال إهلاك بحرمان الشياطين من رضا الله تعالى ، ومن مداخلتهم في مواقع الصلاح ، إلا بمقدار ما تنتهز تلك القوى من فرض ميل القوى البشرية إلى القوى الشيطانية وانجذابها ، فتلك خلس تعمل الشياطين فيها عملها ، وهو ما أشار إليه قوله تعالى قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين . وتلك ألطاف من الله أودعها في نظام الحياة البشرية عند التكوين ، فغلب بسببها الصلاح على جماعة البشر في كل عصر ، وبقي معها من الشرور حظ يسير ينزع فيه الشيطان منازعه ، وكل الله أمر الذياد عنه إلى إرادة البشر ، بعد تزويدهم بالنصح والإرشاد بواسطة الشرائع والحكمة .
فمعنى الحكاية عنه بقوله لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا أن الله خلق في الشيطان علما ضروريا أيقن بمقتضاه أن فيه المقدرة على فتنة البشر وتسخيرهم ، وكانت في نظام البشر فرص تدخل في خلالها آثار فتنة الشيطان ، فذلك هو النصيب المفروض ، أي المجعول بفرض الله وتقديره في أصل الجبلة . وليس قوله من عبادك إنكارا من الشيطان لعبوديته لله ، ولكنها جلافة الخطاب الناشئة عن خباثة التفكير المتأصلة في جبلته ، حتى لا يستحضر الفكر من المعاني المدلولة إلا ما له فيه هوى ، ولا يتفطن إلى ما يحف بذلك من الغلظة ، ولا إلى ما يفوته من الأدب والمعاني الجميلة . فكل حظ كان للشيطان في تصرفات البشر من أعمالهم المعنوية : كالعقائد والتفكيرات الشريرة ، ومن أعمالهم المحسوسة : كالفساد في الأرض ، والإعلان بخدمة الشيطان : كعبادة الأصنام ، والتقريب لها ، وإعطاء أموالهم لضلالهم ، كل ذلك من النصيب المفروض .
ومعنى ولأضلنهم إضلالهم عن الحق . ومعنى ولأمنينهم لأعدنهم مواعيد كاذبة ، ألقيها في نفوسهم ، تجعلهم يتمنون ، أي يقدرون غير الواقع واقعا ، إغراقا [ ص: 205 ] في الخيال ، ليستعين بذلك على تهوين انتشار الضلالات بينهم . يقال : مناه ، إذا وعده المواعيد الباطلة ، وأطمعه في وقوع ما يحبه مما لا يقع ، قال كعب :
فلا يغرنك ما منت وما وعدت
ومنه سمي بالتمني طلب ما لا طمع فيه أو ما فيه عسر .ومعنى ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام أي آمرنهم بأن يبتكوا آذان الأنعام فليبتكنها ، أي يأمرهم فيجدهم ممتثلين ، فحذف مفعول أمر استغناء عنه بما رتب عليه . والتبتيك : القطع . قال تأبط شرا :
ويجعل عينيه ربيئة قلبه إلى سلة من حد أخلق باتك
وقد ذكر هنا شيئا مما يأمر به الشيطان مما يخص أحوال العرب ، إذ كانوا يقطعون آذان الأنعام التي يجعلونها لطواغيتهم ، علامة على أنها محررة للأصنام ، فكانوا يشقون آذان البحيرة والسائبة والوصيلة ، فكان هذا الشق من عمل الشيطان ، إذ كان الباعث عليه غرضا شيطانيا .
وقوله ولآمرنهم فليغيرن خلق الله تعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية من تغيير خلق الله لدواع سخيفة ، فمن ذلك ما يرجع إلى شرائع الأصنام مثل فقء عين الحامي ، وهو البعير الذي حمى ظهره من الركوب لكثرة ما أنسل ، ويسيب للطواغيت . ومنه ما يرجع إلى أغراض ذميمة كالوشم إذ أرادوا به التزين ، وهو تشويه ، وكذلك وسم الوجوه بالنار .
ويدخل في معنى تغيير خلق الله وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له ، وذلك من الضلالات الخرافية . كجعل الكواكب آلهة ، وجعل الكسوفات والخسوفات دلائل على أحوال الناس .
ويدخل فيه تسويل الإعراض عن دين الإسلام ، الذي هو دين الفطرة ، والفطرة خلق الله; فالعدول عن الإسلام إلى غيره تغيير لخلق الله .
وليس من تغيير خلق الله التصرف في المخلوقات بما أذن الله فيه ولا ما يدخل في معنى الحسن ; فإن الختان من تغيير خلق الله ولكنه لفوائد صحية ، وكذلك حلق الشعر لفائدة [ ص: 206 ] دفع بعض الأضرار ، وتقليم الأظفار لفائدة تيسير العمل بالأيدي ، وكذلك ثقب الآذان للنساء لوضع الأقراط والتزين .
وأما ما ورد في السنة من لعن الواصلات والمتنمصات والمتفلجات للحسن فمما أشكل تأويله . وأحسب تأويله أن الغرض منه النهي عن سمات كانت تعد من سمات العواهر في ذلك العهد ، أو من سمات المشركات ، وإلا فلو فرضنا هذه منهيا عنها لما بلغ النهي إلى حد لعن فاعلات ذلك .
وملاك الأمر أن تغيير خلق الله إنما يكون إثما إذا كان فيه حظ من طاعة الشيطان ، بأن يجعل علامة لنحلة شيطانية ، كما هو سياق الآية ، واتصال الحديث بها . وقد أوضحنا ذلك في كتابي المسمى : النظر الفسيح على مشكل الجامع الصحيح .
وجملة ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا تذييل دال على أن ما دعاهم إليه الشيطان : من تبتيك آذان الأنعام ، وتغيير خلق الله ، إنما دعاهم إليه لما يقتضيه من الدلالة على استشعارهم بشعاره ، والتدين بدعوته ، وإلا فإن الشيطان لا ينفعه أن يبتك أحد أذن ناقته ، أو أن يغير شيئا من خلقته ، إلا إذا كان ذلك للتأثر بدعوته .
وقوله يعدهم ويمنيهم استئناف لبيان أنه أنجز عزمه فوعد ومنى وهو لا يزال يعد ويمني ، فلذلك جيء بالمضارع . وإنما لم يذكر أنه يأمرهم فيبتكون آذان الأنعام ويغيرون خلق الله لظهور وقوعه لكل أحد .
وجيء باسم الإشارة في قوله أولئك مأواهم جهنم لتنبيه السامعين إلى ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر وأن المشار إليهم أحرياء به عقب ما تقدم من ذكر صفاتهم .
والمحيص : المراغ والملجأ ، من حاص إذا نفر وراغ ، وفي حديث هرقل فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب . وقال جعفر بن علبة الحارثي :
ولم ندر إن حصنا من الموت حيصة كم العمر باق والمدى متطاول


