[ ص: 254 ] قوله تعالى : وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا يعني من الشهداء والزهاد والعلماء والقراء وغيرهم ، ممن اتقى الله تعالى وعمل بطاعته . وقال في حق الفريقين : وسيق بلفظ واحد ، فسوق أهل النار طردهم إليها بالخزي والهوان ، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل ، وسوق أهل الجنان سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان ; لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك ، فشتان ما بين السوقين .
حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها قيل : الواو هنا للعطف عطف على جملة والجواب محذوف . قال المبرد : أي : سعدوا وفتحت ، وحذف الجواب بليغ في كلام العرب . وأنشد :
فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا
فحذف جواب لو ، والتقدير : لكان أروح . وقال الزجاج : حتى إذا جاءوها دخلوها وهو قريب من الأول . وقيل : الواو زائدة . قال الكوفيون : وهو خطأ عند البصريين . وقد قيل : إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله تعالى ، والتقدير : حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة ، بدليل قوله : جنات عدن مفتحة لهم الأبواب وحذف الواو في قصة أهل النار ; لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالا وترويعا لهم . ذكره المهدوي وحكى معناه النحاس قبله . قال النحاس : فأما الحكمة في إثبات الواو في الثاني وحذفها من الأول ، فقد تكلم فيه بعض أهل العلم بقول لا أعلم أنه سبقه إليه أحد ، وهو أنه لما قال الله - عز وجل - في أهل النار : حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها دل بهذا على أنها كانت مغلقة ، ولما قال في أهل الجنة : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها دل بهذا على أنها كانت مفتحة قبل أن يجيئوها ، والله أعلم . وقيل : إنها واو الثمانية . وذلك من عادة قريش أنهم يعدون من الواحد فيقولون : خمسة ستة سبعة وثمانية ، فإذا بلغوا السبعة قالوا : وثمانية . قال أبو بكر بن عياش . قال الله تعالى : سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام وقال : التائبون العابدون ثم قال في الثامن : والناهون عن المنكر وقال : ويقولون سبعة وثامنهم وقال ثيبات وأبكارا وقد مضى القول في هذا في [ براءة ] مستوفى وفي [ الكهف ] أيضا .
[ ص: 255 ] قلت : وقد استدل بهذا من قال إن أبواب الجنة ثمانية ، وذكروا حديث عمر بن الخطاب ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ الوضوء - ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء خرجه مسلم وغيره . وقد خرج الترمذي حديث عمر هذا وقال فيه : فتح له من أبواب الجنة ثمانية أبواب يوم القيامة . بزيادة من ، وهو يدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية . وقد ذكرنا ذلك في كتاب التذكرة وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابا ، وذكرنا هناك عظم أبوابها وسعتها حسب ما ورد في الحديث من ذلك ، فمن أراده وقف عليه هناك .
وقال لهم خزنتها قيل : الواو ملغاة تقديره : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها قال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم أي : في الدنيا . قال مجاهد : بطاعة الله . وقيل : بالعمل الصالح . حكاه النقاش ، والمعنى واحد . وقال مقاتل : إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه : سلام عليكم بمعنى التحية طبتم فادخلوها خالدين .
قلت : خرج البخاري حديث القنطرة هذا في جامعه من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا وحكى النقاش : إن على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان يشرب المؤمنون من إحداهما فتطهر أجوافهم ، وذلك قوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا ثم يغتسلون من الأخرى فتطيب أبشارهم فعندها يقول لهم خزنتها : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وهذا يروى معناه عن علي - رضي الله عنه - .
وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده أي إذا دخلوا الجنة قالوا هذا . وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء أي أرض الجنة . قيل : إنهم ورثوا الأرض التي كانت تكون لأهل النار لو كانوا مؤمنين ، قاله أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وأكثر المفسرين . وقيل : إنها أرض الدنيا على التقديم والتأخير . فنعم أجر العاملين قيل : هو من [ ص: 256 ] قولهم أي : نعم الثواب هذا . وقيل : هو من قول الله تعالى ، أي : نعم ثواب المحسنين هذا الذي أعطيتهم .
قوله تعالى : وترى الملائكة يا محمد حافين أي محدقين من حول العرش في ذلك اليوم يسبحون بحمد ربهم متلذذين بذلك لا متعبدين به ، أي : يصلون حول العرش شكرا لربهم . والحافون أخذ من حافات الشيء ونواحيه . قال الأخفش : واحدهم حاف . وقال الفراء : لا واحد له إذ لا يقع لهم الاسم إلا مجتمعين . ودخلت " من " على " حول " لأنه ظرف والفعل يتعدى إلى الظرف بحرف وبغير حرف . وقال الأخفش : " من " زائدة أي : حافين حول العرش . وهو كقولك : ما جاءني من أحد ، فمن توكيد . الثعلبي : والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح وتحذفها أحيانا ، فيقولون : سبح بحمد ربك ، وسبح حمدا لله ، قال الله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى وقال : فسبح باسم ربك العظيم .
وقضي بينهم بالحق بين أهل الجنة والنار . وقيل : قضي بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء وبين أممهم بالحق والعدل .وقيل الحمد لله رب العالمين أي يقول المؤمنون : الحمد لله على ما أثابنا من نعمه وإحسانه ونصرنا على من ظلمنا . وقال قتادة في هذه الآية : افتتح الله أول الخلق بالحمد لله ، فقال : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور وختم بالحمد فقال : وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين فلزم الاقتداء به ، والأخذ في ابتداء كل أمر بحمده وخاتمته بحمده . وقيل : إن قول الحمد لله رب العالمين من قول الملائكة ، فعلى هذا يكون حمدهم لله تعالى على عدله وقضائه . وروي من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ على المنبر آخر سورة " الزمر " فتحرك المنبر مرتين
تم تفسير سورة ( الزمر ) .


