فيه اثنتا وثلاثون مسألة :
الأولى : ذكر القشيري وابن عطية أن هذه الآية نزلت في قصة عائشة حين فقدت العقد في غزوة المريسيع ، وهي آية الوضوء . قال ابن عطية : لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا ، فكان الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته ، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في [ ص: 47 ] التيمم ، وقد ذكرنا في آية " النساء " خلاف هذا ، والله أعلم . ومضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع ، وفيما ذكر من إتمام النعمة ; فإن هذه الرخصة من إتمام النعم .
الثانية : واختلف العلماء في المعنى المراد بقوله : إذا قمتم إلى الصلاة على أقوال ; فقالت طائفة : هذا لفظ عام في كل قيام إلى الصلاة ، سواء كان القائم متطهرا أو محدثا ; فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ ، وكان علي يفعله ويتلو هذه الآية ; ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده ، وروي مثله عن عكرمة ، وقال ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة .
قلت : فالآية على هذا محكمة لا نسخ فيها ، وقالت طائفة : الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ; قال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه ; فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث ، وقال علقمة بن الفغواء عن أبيه - وهو من الصحابة ، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك : نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء ، ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما إلى غير ذلك ; فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو للقيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال ، وقالت طائفة : المراد بالآية الوضوء لكل صلاة طلبا للفضل ; وحملوا الأمر على الندب ، وكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر يتوضئون لكل صلاة طلبا للفضل ، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد ، إرادة البيان لأمته صلى الله عليه وسلم .
قلت : وظاهر هذا القول أن الوضوء لكل صلاة قبل ورود الناسخ كان مستحبا لا إيجابا وليس كذلك ; فإن الأمر إذا ورد ، مقتضاه الوجوب ; لا سيما عند الصحابة رضوان الله عليهم ، على ما هو معروف من سيرتهم ، وقال آخرون : إن الفرض في كل وضوء كان لكل صلاة ثم نسخ في فتح مكة ; وهذا غلط لحديث أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة ، وإن أمته كانت على خلاف ذلك ، وسيأتي ; ولحديث سويد بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو بالصهباء العصر والمغرب بوضوء واحد ; وذلك في غزوة خيبر ، وهي سنة ست ، وقيل : سنة سبع ، وفتح مكة كان في سنة ثمان ; وهو حديث صحيح رواه مالك في موطئه ، وأخرجه البخاري ومسلم ; فبان بهذين الحديثين أن الفرض لم يكن قبل الفتح لكل صلاة . فإن قيل : فقد روى مسلم عن بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان يوم [ ص: 48 ] الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد ، ومسح على خفيه ، فقال عمر رضي الله عنه : لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه ; فقال : ( عمدا صنعته يا عمر ) . فلم سأله عمر واستفهمه ؟ قيل له : إنما سأله لمخالفته عادته منذ صلاته بخيبر ; والله أعلم . وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهرا وغير طاهر ; قال حميد : قلت لأنس : وكيف كنتم تصنعون أنتم ؟ قال : كنا نتوضأ وضوءا واحدا ; قال : حديث حسن صحيح ; وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الوضوء على الوضوء نور فكان عليه السلام يتوضأ مجددا لكل صلاة ، وقد سلم عليه رجل وهو يبول فلم يرد عليه حتى تيمم ثم رد السلام وقال : إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر رواه الدارقطني ، وقال السدي وزيد بن أسلم : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة يريد من المضاجع يعني النوم ، والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر ، ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو حدث في نفسه أم لا ؟ وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير ; التقدير : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم ، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء - يعني الملامسة الصغرى - فاغسلوا ; فتمت أحكام المحدث حدثا أصغر . ثم قال : وإن كنتم جنبا فاطهروا فهذا حكم نوع آخر ; ثم قال للنوعين جميعا : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا . وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك - رحمه الله - وغيره ، وقال جمهور أهل العلم : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ; وليس في الآية على هذا تقديم وتأخير ، بل ترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله : فاطهروا ودخلت الملامسة الصغرى في قوله " محدثين " . ثم ذكر بعد قوله : وإن كنتم جنبا فاطهروا حكم عادم الماء من النوعين جميعا ، وكانت الملامسة هي الجماع ، ولا بد أن يذكر الجنب العادم الماء كما ذكر الواجد ; وهذا تأويل الشافعي وغيره ; وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى الأشعري وغيرهم .
قلت : وهذان التأويلان أحسن ما قيل في الآية ; والله أعلم ، ومعنى إذا قمتم إذا أردتم ، كما قال تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ ، أي : إذا أردت ; لأن الوضوء حالة القيام إلى الصلاة لا يمكن .
الثالثة : قوله تعالى : الصلاة فاغسلوا وجوهكم ذكر تعالى أربعة أعضاء : الوجه وفرضه [ ص: 49 ] الغسل واليدين كذلك والرأس وفرضه المسح اتفاقا واختلف في الرجلين على ما يأتي ، لم يذكر سواها فدل ذلك على أن ما عداها آداب وسنن ، والله أعلم ، ولا بد في غسل الوجه من نقل الماء إليه ، وإمرار اليد عليه ; وهذه حقيقة الغسل عندنا ، وقد بيناه في " النساء " ، وقال غيرنا : إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دلك بيده ; ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء وغمس وجهه أو يده ولم يدلك يقال : غسل وجهه ويده ، ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الاسم ، فإذا حصل كفى ، والوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة ، وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض ; فحده في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين ، ومن الأذن إلى الأذن في العرض ، وهذا في الأمرد ; وأما الملتحي فإذا اكتسى الذقن بالشعر فلا يخلو أن يكون خفيفا أو كثيفا ; فإن كان الأول بحيث تبين منه البشرة فلا بد من إيصال الماء إليها ، وإن كان كثيفا فقد انتقل الفرض إليه كشعر الرأس ; ثم ما زاد على الذقن من الشعر واسترسل من اللحية ، فقال سحنون عن ابن القاسم : سمعت مالكا سئل : هل سمعت بعض أهل العلم يقول إن اللحية من الوجه فليمر عليها الماء ؟ قال : نعم ، وتخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس ، وعاب ذلك على من فعله ، وذكر ابن القاسم أيضا عن مالك قال : يحرك المتوضئ ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها ; قال : وهي مثل أصابع الرجلين . قال ابن عبد الحكم : تخليل اللحية واجب في الوضوء والغسل . قال أبو عمر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته في الوضوء من وجوه كلها ضعيفة . وذكر ابن خويز منداد : أن الفقهاء اتفقوا على أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء ، إلا شيء روي عن سعيد بن جبير ; قوله : ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسلها ، وما بال الأمرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية ؟ قال الطحاوي : التيمم واجب فيه مسح البشرة قبل نبات الشعر في الوجه ثم سقط بعده عند جميعهم . فكذلك الوضوء . قال أبو عمر : من جعل غسل اللحية كلها واجبا جعلها وجها ; لأن الوجه مأخوذ من المواجهة ، والله قد أمر بغسل الوجه أمرا مطلقا لم يخص صاحب لحية من أمرد ; فوجب غسلها بظاهر القرآن لأنها بدل من البشرة .
قلت : واختار هذا القول ابن العربي وقال : وبه أقول ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل لحيته ، خرجه الترمذي وغيره ; فعين المحتمل بالفعل ، وحكى ابن المنذر عن إسحاق أن من ترك تخليل لحيته عامدا أعاد ، وروى الترمذي عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته ; قال : هذا حديث حسن صحيح ; قال أبو عمر : ومن لم يوجب غسل ما انسدل من اللحية ذهب إلى أن الأصل المأمور بغسله البشرة ، فوجب غسل ما ظهر فوق البشرة ، وما انسدل من اللحية ليس تحته ما يلزم غسله ، فيكون غسل اللحية بدلا منه ، واختلفوا أيضا في [ ص: 50 ] غسل ما وراء العذار إلى الأذن ; فروى ابن وهب عن مالك قال : ليس ما خلف الصدغ الذي من وراء شعر اللحية إلى الذقن من الوجه . قال أبو عمر : لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بما رواه ابن وهب عن مالك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : البياض بين العذار والأذن من الوجه ، وغسله واجب ; ونحوه قال الشافعي وأحمد ، وقيل : يغسل البياض استحبابا ; قال ابن العربي : والصحيح عندي أنه لا يلزم غسله إلا للأمرد لا للمعذر .
قلت : وهو اختيار القاضي عبد الوهاب ; وسبب الخلاف هل تقع عليه المواجهة أم لا ؟ والله أعلم ، وبسبب هذا الاحتمال اختلفوا هل يتناول الأمر بغسل الوجه باطن الأنف والفم أم لا ؟ فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهما إلى وجوب ذلك في الوضوء والغسل ، إلا أن أحمد قال : يعيد من ترك الاستنشاق في وضوئه ولا يعيد من ترك المضمضة ، وقال عامة الفقهاء : هما سنتان في الوضوء والغسل ; لأن الأمر إنما يتناول الظاهر دون الباطن ، والعرب لا تسمي وجها إلا ما وقعت به المواجهة ، ثم إن الله تعالى لم يذكرهما في كتابه ، ولا أوجبهما المسلمون ، ولا اتفق الجميع عليه ; والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه ، وقد مضى هذا المعنى في " النساء " ، وأما العينان فالناس كلهم مجمعون على أن داخل العينين لا يلزم غسله ، إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه ; وإنما سقط غسلهما للتأذي بذلك والحرج به ; قال ابن العربي : ولذلك كان عبد الله بن عمر لما عمي يغسل عينيه إذ كان لا يتأذى بذلك ; وإذا تقرر هذا من حكم الوجه فلا بد من غسل جزء من الرأس مع الوجه من غير تحديد ، كما لا بد على القول بوجوب عموم الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدر ; وهذا ينبني على أصل من أصول الفقه وهو : " أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب مثله " والله أعلم .
الرابعة : وجمهور العلماء على أن الوضوء لا بد فيه من نية ; لقوله عليه السلام : إنما الأعمال بالنيات . قال البخاري : فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام ; وقال الله تعالى : قل كل يعمل على شاكلته ، يعني على نيته . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ولكن جهاد ونية ، وقال كثير من الشافعية : لا حاجة إلى نية ; وهو قول الحنفية ; قالوا : لا تجب النية إلا في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سببا لغيرها ، فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقارنه ، والطهارة شرط ; فإن من لا صلاة عليه لا يجب عليه فرض الطهارة ، كالحائض والنفساء . احتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم فلما وجب فعل الغسل كانت [ ص: 51 ] النية شرطا في صحة الفعل ; لأن الفرض من قبل الله تعالى فينبغي أن يجب فعل ما أمر الله به ; فإذا قلنا : إن النية لا تجب عليه لم يجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى ، ومعلوم أن الذي اغتسل تبردا أو لغرض ما ، قصد أداء الواجب ; وصح في الحديث أن الوضوء يكفر ; فلو صح بغير نية لما كفر ، وقال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
الخامسة : قال ابن العربي ، قال بعض علمائنا : إن من خرج إلى النهر بنية الغسل أجزأه ، وإن عزبت نيته في الطريق ، ولو خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بطلت النية . قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه : فركب على هذا سفاسفة المفتين أن نية الصلاة تتخرج على القولين ، وأوردوا فيها نصا عمن لا يفرق بين الظن واليقين بأنه قال : يجوز أن تتقدم فيها النية على التكبير ; ويا لله ويا للعالمين من أمة أرادت أن تكون مفتية مجتهدة فما وفقها الله ولا سددها! اعلموا رحمكم الله أن النية في الوضوء مختلف في وجوبها بين العلماء ، وقد اختلف فيها قول مالك ; فلما نزلت عن مرتبة الاتفاق سومح في تقديمها في بعض المواضع ، فأما الصلاة فلم يختلف أحد من الأئمة فيها ، وهي أصل مقصود ، فكيف يحمل الأصل المقصود المتفق عليه على الفرع التابع المختلف فيه ! هل هذا إلا غاية الغباوة ؟ وأما الصوم فإن الشرع رفع الحرج فيه لما كان ابتداؤه في وقت الغفلة بتقديم النية عليه .
السادسة : قوله تعالى : وأيديكم إلى المرافق واختلف الناس في دخول المرافق في التحديد ; فقال قوم : نعم ; لأن ما بعد ( إلى ) إذا كان من نوع ما قبلها دخل فيه ; قال سيبويه وغيره ، وقد مضى هذا في " البقرة " مبينا ، وقيل : لا يدخل المرفقان في الغسل ; والروايتان مرويتان عن مالك ; الثانية لأشهب ; والأولى عليها أكثر العلماء وهو الصحيح ; لما رواه الدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه ، وقد قال بعضهم : إن إلى بمعنى مع ، كقولهم : الذود إلى الذود إبل ، أي : مع الذود ، وهذا لا يحتاج إليه كما بيناه في " النساء " ; ولأن اليد عند العرب تقع على أطراف الأصابع إلى الكتف ، وكذلك الرجل تقع على الأصابع إلى أصل الفخذ ; فالمرفق داخل تحت اسم اليد ، فلو كان المعنى مع المرافق لم يفد ، فلما قال : إلى اقتطع من حد المرافق عن الغسل ، وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر ، وهذا كلام صحيح يجري على الأصول لغة ومعنى ; قال ابن العربي : وما فهم أحد [ ص: 52 ] مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد فإنه قال : إن قوله إلى المرافق حد للمتروك من اليدين لا للمغسول فيهما ; ولذلك تدخل المرافق في الغسل .
قلت : ولما كان اليد والرجل تنطلق في اللغة على ما ذكرنا كان أبو هريرة يبلغ بالوضوء إبطه وساقه ويقول : سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول : تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء . قال القاضي عياض : والناس مجمعون على خلاف هذا ، وألا يتعدى بالوضوء حدوده ; لقوله عليه السلام : فمن زاد فقد تعدى وظلم . وقال غيره : كان هذا الفعل مذهبا له ومما انفرد به ، ولم يحكه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما استنبطه من قوله عليه السلام : أنتم الغر المحجلون ومن قوله : تبلغ الحلية كما ذكر .
السابعة : قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم تقدم في " النساء " أن المسح لفظ مشترك ، وأما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه ، فلما ذكره الله عز وجل في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح ، ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه ، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم ; وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه ; فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال : أرأيت إن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه ؟ ووضح بهذا الذي ذكرناه أن الأذنين من الرأس ، وأن حكمهما حكم الرأس خلافا للزهري ، حيث قال : هما من الوجه يغسلان معه ، وخلافا للشعبي ، حيث قال : ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس ; وهو قول الحسن وإسحاق ، وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعي ، وسيأتي بيان حجتهما ; وإنما سمي الرأس رأسا لعلوه ونبات الشعر فيه ، ومنه رأس الجبل ; وإنما قلنا إن الرأس اسم لجملة أعضاء لقول الشاعر :
إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري
الثامنة : واختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولا ; ثلاثة لأبي حنيفة ، وقولان للشافعي ، وستة أقوال لعلمائنا ; والصحيح منها واحد وهو وجوب التعميم لما ذكرناه . وأجمع العلماء على أن من مسح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه ; والباء مؤكدة زائدة ليست للتبعيض : والمعنى وامسحوا رءوسكم ، وقيل : دخولها هنا كدخولها في التيمم في قوله : فامسحوا بوجوهكم فلو كان معناها التبعيض لأفادته في ذلك الموضع ، وهذا قاطع . وقيل : إنما دخلت لتفيد معنى بديعا وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به ، والمسح لغة لا يقتضي [ ص: 53 ] ممسوحا به ; فلو قال : وامسحوا رءوسكم لأجزأ المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس ; فدخلت الباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء ، فكأنه قال : وامسحوا برءوسكم الماء ; وذلك فصيح في اللغة على وجهين ; إما على القلب كما أنشد سيبويه : ( وهو الشاعر الخفاف بن ندبة السلمي )
كنواح ريش حمامة نجدية ومسحت باللثتين عصف الإثمد
مثل القنافذ هداجون قد بلغت نجران أو بلغت سوءاتهم هجر
التاسعة : وجمهور العلماء على أن مسحة واحدة موعبة كاملة تجزئ ، وقال الشافعي : يمسح رأسه ثلاثا ; وروي عن أنس وسعيد بن جبير وعطاء ، وكان ابن سيرين يمسح مرتين . قال أبو داود : وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة ; فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا ، قالوا فيها : ومسح برأسه ولم يذكروا عددا .
العاشرة : واختلفوا من أين يبدأ بمسحه ; فقال مالك : يبدأ بمقدم رأسه ، ثم يذهب بيديه إلى مؤخره ، ثم يردهما إلى مقدمه ; على حديث عبد الله بن زيد أخرجه مسلم ; وبه يقول الشافعي وابن حنبل ، وكان الحسن بن حي يقول : يبدأ بمؤخر الرأس ; على حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء ; وهو حديث يختلف في ألفاظه ، وهو يدور على عبد الله بن محمد بن [ ص: 54 ] عقيل وليس بالحافظ عندهم ; أخرجه أبو داود من رواية بشر بن المفضل عن عبد الله عن الربيع ، وروى ابن عجلان عنه عن الربيع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندنا فمسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية بمنصب الشعر ، لا يحرك الشعر عن هيئته ; ورويت هذه الصفة عن ابن عمر ، وأنه كان يبدأ من وسط رأسه ، وأصح ما في هذا الباب حديث عبد الله بن زيد ; وكل من أجاز بعض الرأس فإنما يرى ذلك البعض في مقدم الرأس . وروي عن إبراهيم والشعبي أنهما قالا : أي نواحي رأسك مسحت أجزأ عنك ، ومسح عمر اليافوخ فقط ، والإجماع منعقد على استحسان المسح باليدين معا ، وعلى الإجزاء إن مسح بيد واحدة ، واختلف فيمن مسح بإصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس ; فالمشهور أن ذلك يجزئ ، وهو قول سفيان الثوري ; قال سفيان : إن مسح رأسه بإصبع واحدة أجزأه ، وقيل : إن ذلك لا يجزئ ; لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب ، إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي ألا يختلف في الإجزاء . قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاثة أصابع ; واختلفوا في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أو سنة - بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن - فالجمهور على أنه سنة ، وقيل : هو فرض .
الحادية عشرة : فلو غسل متوضئ رأسه بدل المسح فقال ابن العربي : لا نعلم خلافا أن ذلك يجزئه ، إلا ما أخبرنا الإمام فخر الإسلام الشاشي في الدرس عن أبي العباس بن القاص من أصحابهم قال : لا يجزئه ، وهذا تولج في مذهب الداودية الفاسد من اتباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمه الله في قوله : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وقال تعالى : أم بظاهر من القول وإلا فقد جاء هذا الغاسل بما أمر وزيادة . فإن قيل : هذه زيادة خرجت عن اللفظ المتعبد به ; قلنا : ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحل ; وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح .
الثانية عشرة : وأما الأذنان فهما من الرأس عند مالك وأحمد والثوري وأبي حنيفة وغيرهم ، ثم اختلفوا في تجديد الماء ; فقال مالك وأحمد : يستأنف لهما ماء جديدا سوى الماء الذي مسح به الرأس ، على ما فعل ابن عمر ; وهكذا قال الشافعي في تجديد الماء ، وقال : هما سنة على حالهما لا من الوجه ولا من الرأس ; لاتفاق العلماء على أنه لا يحلق ما عليهما من الشعر في الحج ; وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعي ، وقال الثوري وأبو حنيفة : يمسحان مع الرأس بماء واحد ; وروي عن جماعة من السلف مثل هذا القول من الصحابة [ ص: 55 ] والتابعين ، وقال داود : إن مسح أذنيه فحسن ، وإلا فلا شيء عليه ; إذ ليستا مذكورتين في القرآن . قيل له : اسم الرأس تضمنهما كما بيناه ، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في كتاب النسائي وأبي داود وغيرهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهرهما وباطنهما ، وأدخل أصابعه في صماخيه ، وإنما يدل عدم ذكرهما من الكتاب على أنهما ليستا بفرض كغسل الوجه واليدين ، وثبتت سنة مسحهما بالسنة ، وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق فإنه قال : إن ترك مسح أذنيه لم يجزه ، وقال أحمد : إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد ، وروي عن علي بن زياد من أصحاب مالك أنه قال : من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامدا أعاد ; وهذا عند الفقهاء ضعيف ، وليس لقائله سلف ولا له حظ من النظر ، ولو كان كذلك لم يعرف الفرض الواجب من غيره ; والله أعلم . احتج من قال : هما من الوجه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده : سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره فأضاف السمع إلى الوجه فثبت أن يكون لهما حكم الوجه ، وفي مصنف أبي داود من حديث عثمان : فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة ، ثم غسل رجليه ثم قال : أين السائلون عن الوضوء ؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ . احتج من قال : يغسل ظاهرهما مع الوجه ، وباطنهما يمسح مع الرأس بأن الله عز وجل قد أمر بغسل الوجه وأمر بمسح الرأس ; فما واجهك من الأذنين وجب غسله ; لأنه من الوجه وما لم يواجهك وجب مسحه لأنه من الرأس ، وهذا ترده الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما من حديث علي وعثمان وابن عباس والربيع وغيرهم . احتج من قال : هما من الرأس بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث الصنابحي : ( فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه ) الحديث أخرجه مالك .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : " وأرجلكم " قرأ نافع وابن عامر والكسائي " وأرجلكم " بالنصب ; وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ " وأرجلكم " بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان ; وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة " وأرجلكم " بالخفض وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون ; فمن قرأ بالنصب جعل العام " اغسلوا " وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح ، وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء ، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، واللازم من قوله في غير ما حديث ، وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم [ ص: 56 ] تلوح فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء . ثم إن الله حدهما فقال : إلى الكعبين كما قال في اليدين إلى المرافق فدل على وجوب غسلهما ; والله أعلم .
ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء ، قال ابن العربي : اتفقت العلماء على وجوب غسلهما ، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين ، والرافضة من غيرهم ، وتعلق الطبري بقراءة الخفض .
قلت : قد روي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما . فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق الله وكذب الحجاج ; قال الله تعالى : وامسحوا برءوسكم وأرجلكم . قال : وكان إذا مسح رجليه بلهما ، وروي عن أنس أيضا أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل ، وكان عكرمة يمسح رجليه وقال : ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح ، وقال عامر الشعبي : نزل جبريل بالمسح ; ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا ، ويلغى ما كان مسحا ، وقال قتادة : افترض الله غسلتين ومسحتين ، وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح ، وجعل القراءتين كالروايتين ; قال النحاس : ومن أحسن ما قيل فيه أن المسح والغسل واجبان جميعا ، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض ، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب ، والقراءتان بمنزلة آيتين . قال ابن عطية : وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل .
قلت : وهو الصحيح ; فإن لفظ المسح مشترك ، يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل ; قال الهروي : أخبرنا الأزهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الداري عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال : المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا ، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه : قد تمسح ; ويقال : مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب ، فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فترجح قول من قال : إن المراد بقراءة الخفض الغسل ; بقراءة النصب التي لا احتمال فيها ، وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل ، والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة أخرجها الأئمة ; ثم [ ص: 57 ] إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل الرجلين ، التقدير فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم ; فلما كان الرأس مفعولا قبل الرجلين قدم عليهما في التلاوة - والله أعلم - لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدمه عليهما في صفة التطهير ، وقد روى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قرأ الحسن والحسين - رحمة الله عليهما - علي ( وأرجلكم ) فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال : ( وأرجلكم ) هذا من المقدم والمؤخر من الكلام ، وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال : اغسلوا الأقدام إلى الكعبين ، وكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرآ ( وأرجلكم ) بالنصب ، وقد قيل : إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيدا لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان ، وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان ، فبين صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي تغسل فيه الرجل والحال التي تمسح فيه ، وهذا حسن . فإن قيل : إن المسح على الخفين منسوخ بسورة ( المائدة ) - وقد قاله ابن عباس ، ورد المسح أبو هريرة وعائشة ، وأنكره مالك في رواية عنه - فالجواب أن من نفى شيئا وأثبته غيره فلا حجة للنافي ، وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من الصحابة وغيرهم ، وقد قال الحسن : حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الخفين ; وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام قال : بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه ; قال إبراهيم النخعي : وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه ، قال إبراهيم النخعي : كان يعجبهم هذا الحديث ; لأن إسلام جرير كان بعد نزول ( المائدة ) وهذا نص يرد ما ذكروه وما احتجوا به من رواية الواقدي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن جريرا أسلم في ستة عشر من شهر رمضان ، وأن ( المائدة ) نزلت في ذي الحجة يوم عرفات ، وهذا حديث لا يثبت لوهاه ; وإنما نزل منها يوم عرفة اليوم أكملت لكم دينكم على ما تقدم ; قال أحمد بن حنبل : أنا أستحسن حديث جرير في المسح على الخفين ; لأن إسلامه كان بعد نزول ( المائدة ) وأما ما روي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما فلا يصح ، أما عائشة فلم يكن عندها بذلك علم ; ولذلك ردت السائل إلى علي رضي الله عنه وأحالته عليه فقالت : سله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ; الحديث ، وأما مالك فما روي عنه من الإنكار فهو منكر لا يصح ، والصحيح ما قاله عند موته لابن نافع قال : إني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور ولا أرى من مسح مقصرا فيما يجب عليه ، وعلى هذا حمل أحمد بن حنبل ما رواه ابن [ ص: 58 ] وهب عنه أنه قال : لا أمسح في حضر ولا سفر . قال أحمد : كما روي عن ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ وقال : حبب إلي الوضوء ; ونحوه عن أبي أيوب ، وقال أحمد رضي الله عنه : فمن ترك ذلك على نحو ما تركه ابن عمر وأبو أيوب ومالك لم أنكره عليه ، وصلينا خلفه ولم نعبه ، إلا أن يترك ذلك ولا يراه كما صنع أهل البدع ، فلا يصلى خلفه ، والله أعلم ، وقد قيل : إن قوله ( وأرجلكم ) معطوف على اللفظ دون المعنى ، وهذا أيضا يدل على الغسل فإن المراعى المعنى لا اللفظ ، وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب ; وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى : يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس بالجر لأن النحاس الدخان ، وقال : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ بالجر . قال امرؤ القيس :
كأن أبانا في أفانين ودقه كبير أناس في بجاد مزمل
لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر
قلت : والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل ما قدمناه ، وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار فخوفنا بذكر النار على مخالفة مراد الله عز وجل ، ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب ، ومعلوم أن المسح ليس شأنه الاستيعاب ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما ، فتبين بهذا الحديث بطلان قول من قال بالمسح ، إذ لا مدخل لمسح بطونهما عندهم ، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح ، ودليل آخر من جهة الإجماع ; وذلك أنهم اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه ، واختلفوا فيمن مسح قدميه ; فاليقين ما [ ص: 59 ] أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه ، ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما ; وحسبك بهذا حجة في الغسل مع ما بيناه ، فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعني فيها الغسل لا المسح كما ذكرنا ، وأن العامل في قوله وأرجلكم قوله : فاغسلوا والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما تقول : أكلت الخبز واللبن أي : وشربت اللبن ; ومنه قول الشاعر :
علفتها تبنا وماء باردا
وقال آخر :ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها
وقال آخر :شراب ألبان وتمر وأقط
التقدير : علفتها تبنا وسقيتها ماء ، ومتقلدا سيفا وحاملا رمحا ، وأطفلت بالجلهتين ظباؤها وفرخت نعامها ; والنعام لا يطفل إنما يفرخ ، وأطفلت كان لها أطفال ، والجلهتان جنبتا الوادي ، وشراب ألبان وآكل تمر ; فيكون قوله : وامسحوا برءوسكم وأرجلكم عطف بالغسل على المسح حملا على المعنى والمراد الغسل ; والله أعلم .الرابعة عشرة : قوله تعالى : إلى الكعبين روى البخاري : حدثني موسى قال أنبأنا وهيب عن عمرو - هو ابن يحيى - عن أبيه قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بتور من ماء ، فتوضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ; فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثا ، ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات ، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا ، ثم أدخل يديه فغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ; فهذا الحديث دليل على أن الباء في قوله وامسحوا برءوسكم زائدة لقوله : فمسح رأسه ولم يقل برأسه ، وأن مسح الرأس مرة ، وقد جاء مبينا في كتاب مسلم من حديث عبد الله بن زيد في تفسير قوله : فأقبل بهما وأدبر ، وبدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، واختلف العلماء في الكعبين فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي [ ص: 60 ] الرجل ، وأنكر الأصمعي قول الناس : إن الكعب في ظهر القدم ; قاله في ( الصحاح ) وروي عن ابن القاسم ، وبه قال محمد بن الحسن ; قال ابن عطية : ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا ، ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإيهام ; وقال الشافعي رحمه الله : لم أعلم مخالفا في أن الكعبين هما العظمان في مجمع مفصل الساق ; وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال : الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب ، وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم .
قلت : هذا هو الصحيح لغة وسنة فإن الكعب في كلام العرب مأخوذ من العلو ومنه سميت الكعبة ; وكعبت المرأة إذا فلك ثديها ، وكعب القناة أنبوبها ، وأنبوب ما بين كل عقدتين كعب ، وقد يستعمل في الشرف والمجد تشبيها ، ومنه الحديث : والله لا يزال كعبك عاليا ، وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو دواد عن النعمان بن بشير والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم ، قال : فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه ، وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه والعقب هو مؤخر الرجل تحت العرقوب ، والعرقوب هو مجمع مفصل الساق والقدم ، ومنه الحديث ويل للعراقيب من النار يعني إذا لم تغسل ; كما قال : ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار .
الخامسة عشرة : قال ابن وهب عن مالك : ليس على أحد تخليل أصابع رجليه في الوضوء ولا في الغسل ، ولا خير في الجفاء والغلو ; قال ابن وهب : تخليل أصابع الرجلين مرغب فيه ولا بد من ذلك في أصابع اليدين ; وقال ابن القاسم عن مالك : من لم يخلل أصابع رجليه فلا شيء عليه ، وقال محمد بن خالد عن ابن القاسم عن مالك فيمن توضأ على نهر فحرك رجليه : إنه لا يجزئه حتى يغسلهما بيديه ; قال ابن القاسم : وإن قدر على غسل إحداهما بالأخرى أجزأه .
قلت : الصحيح أنه لا يجزئه فيهما إلا غسل ما بينهما كسائر الرجل إذ ذلك من الرجل ، كما أن ما بين أصابع اليد من اليد ، ولا اعتبار بانفراج أصابع اليدين وانضمام أصابع الرجلين ، فإن الإنسان مأمور بغسل الرجل جميعها كما هو مأمور بغسل اليد جميعها ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره ، مع ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل رجليه ; وهذا يقتضي العموم . وقد كان مالك رحمه الله في آخر عمره يدلك أصابع رجليه بخنصره أو ببعض أصابعه لحديث حدثه به ابن وهب عن ابن لهيعة والليث بن سعد عن [ ص: 61 ] يزيد بن عمرو الغفاري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيخلل بخنصره ما بين أصابع رجليه ; قال ابن وهب ، فقال لي مالك : إن هذا لحسن ، وما سمعته قط إلا الساعة ; قال ابن وهب : وسمعته سئل بعد ذلك عن تخليل الأصابع في الوضوء فأمر به ، وقد روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خللوا بين الأصابع لا تخللها النار وهذا نص في الوعيد على ترك التخليل ; فثبت ما قلناه ، والله الموفق .
السادسة عشرة : ألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء ، وهي إتباع المتوضئ الفعل الفعل إلى آخره من غير تراخ بين أبعاضه ، ولا فصل بفعل ليس منه ; واختلف العلماء في ذلك ; فقال ابن أبي سلمة وابن وهب : ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان ، فمن فرق بين أعضاء وضوئه متعمدا أو ناسيا لم يجزه ، وقال ابن عبد الحكم : يجزئه ناسيا ومتعمدا ، وقال مالك في " المدونة " وكتاب محمد : إن الموالاة ساقطة ; وبه قال الشافعي ، وقال مالك وابن القاسم : إن فرقه متعمدا لم يجزه ويجزئه ناسيا ; وقال مالك في رواية ابن حبيب : يجزئه في المغسول ولا يجزئه في الممسوح ; فهذه خمسة أقوال ابتنيت على أصلين :
الأول : أن الله سبحانه وتعالى أمر أمرا مطلقا فوال أو فرق ، وإنما المقصود وجود الغسل في جميع الأعضاء عند القيام إلى الصلاة .
والثاني : أنها عبادات ذات أركان مختلفة فوجب فيها التوالي كالصلاة ; وهذا أصح ، والله أعلم .
السابعة عشرة : وتتضمن ألفاظ الآية أيضا الترتيب وقد اختلف فيه ; فقال الأبهري : الترتيب سنة ، وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي يجزئ ، واختلف في العامد فقيل : يجزئ ويرتب في المستقبل ، وقال أبو بكر القاضي وغيره : لا يجزئ لأنه عابث ، وإلى هذا ذهب الشافعي وسائر أصحابه ، وبه يقول أحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق وأبو ثور ، وإليه ذهب أبو مصعب صاحب مالك وذكره في مختصره ، وحكاه عن أهل المدينة ومالك معهم في أن من قدم في الوضوء يديه على وجهه ، ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلى بذلك الوضوء ، وذهب مالك في أكثر الروايات عنه وأشهرها أن " الواو " لا توجب التعقيب ولا تعطي رتبة ، وبذلك قال أصحابه وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والمزني وداود بن علي ; قال إلكيا الطبري ظاهر قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم يقتضي الإجزاء فرق أو جمع أو والى على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي ، وهو مذهب الأكثرين من العلماء . قال أبو عمر : إلا أن مالكا يستحب له استئناف [ ص: 62 ] الوضوء على النسق لما يستقبل من الصلاة ، ولا يرى ذلك واجبا عليه ; هذا تحصيل مذهبه ، وقد روى علي بن زياد عن مالك قال : من غسل ذراعيه ثم وجهه ثم ذكر مكانه أعاد غسل ذراعيه ، وإن لم يذكر حتى صلى أعاد الوضوء والصلاة ; قال علي ثم قال بعد ذلك : لا يعيد الصلاة ويعيد الوضوء لما يستأنف . وسبب الخلاف ما قال بعضهم : إن " الفاء " توجب التعقيب في قوله : " فاغسلوا " فإنها لما كانت جوابا للشرط ربطت المشروط به ، فاقتضت الترتيب في الجميع ; وأجيب بأنه إنما اقتضت البداءة في الوجه إذ هو جزاء الشرط وجوابه ، وإنما كنت تقتضي الترتيب في الجميع لو كان جواب الشرط معنى واحدا ، فإذا كانت جملا كلها جوابا لم تبال بأيها بدأت ، إذ المطلوب تحصيلها . قيل : إن الترتيب إنما جاء من قبل الواو ; وليس كذلك لأنك تقول : تقاتل زيد وعمرو ، وتخاصم بكر وخالد ، فدخولها في باب المفاعلة يخرجها عن الترتيب ، والصحيح أن يقال : إن الترتيب متلقى من وجوه أربعة :
الأول : أن يبدأ بما بدأ الله به كما قال عليه الصلاة والسلام حين حج : نبدأ بما بدأ الله به .
الثاني : من إجماع السلف فإنهم كانوا يرتبون .
الثالث : من تشبيه الوضوء بالصلاة .
الرابع : من مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .
احتج من أجاز ذلك بالإجماع على أن لا ترتيب في غسل أعضاء الجنابة ، فكذلك غسل أعضاء الوضوء ; لأن المعنى في ذلك الغسل لا التبدية ، وروي عن علي أنه قال : ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت ، وعن عبد الله بن مسعود قال : لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك ; قال الدارقطني : هذا مرسل ولا يثبت ، والأولى وجوب الترتيب ، والله أعلم .
الثامنة عشرة : إذا كان في الاشتغال بالوضوء فوات الوقت لم يتيمم عند أكثر العلماء ، ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك ; لأن التيمم إنما جاء في الأصل لحفظ وقت الصلاة ، ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء . احتج الجمهور بقوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا وهذا واجد ، فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم .
التاسعة عشرة : وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة ; لأنه قال : إذا قمتم إلى الصلاة ولم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء ، فلو كانت إزالتها واجبة لكانت أول مبدوء به ; وهو قول أصحاب أبي حنيفة ، وهي رواية أشهب عن مالك ، وقال ابن وهب عن مالك : إزالتها واجبة في الذكر والنسيان ; وهو قول الشافعي ، وقال ابن القاسم : تجب إزالتها مع الذكر ، وتسقط مع النسيان ، وقال أبو حنيفة : تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي - يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال - قياسا على فم المخرج [ ص: 63 ] المعتاد الذي عفي عنه ، والصحيح رواية ابن وهب ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صاحبي القبرين : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله ولا يعذب إلا على ترك الواجب ; ولا حجة في ظاهر القرآن ; لأن الله سبحانه وتعالى إنما بين من آية الوضوء صفة الوضوء خاصة ، ولم يتعرض لإزالة النجاسة ولا غيرها .
الموفية عشرين : ودلت الآية أيضا على المسح على الخفين كما بينا ، ولمالك في ذلك ثلاث روايات :
الأولى : الإنكار مطلقا كما يقوله الخوارج ، وهذه الرواية منكرة وليست بصحيحة ، وقد تقدم .
الثانية : يمسح في السفر دون الحضر ; لأن أكثر الأحاديث بالمسح إنما هي في السفر ; وحديث السباطة يدل على جواز المسح في الحضر ، أخرجه مسلم من حديث حذيفة قال : فلقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى ; فأتى سباطة قوم خلف حائط ، فقام كما يقوم أحدكم فبال فانتبذت منه ، فأشار إلي فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ - زاد في رواية - فتوضأ ومسح على خفيه ، ومثله حديث شريح بن هانئ قال : أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت : عليك بابن أبي طالب فسله ; فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فسألناه فقال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة ; - وهي الرواية الثالثة - يمسح حضرا وسفرا ; وقد تقدم ذكرها .
الحادية والعشرون : ويمسح المسافر عند مالك على الخفين بغير توقيت ، وهو قول الليث بن سعد ; قال ابن وهب سمعت مالكا يقول : ليس عند أهل بلدنا في ذلك وقت . وروى أبو داود من حديث أبي بن عمارة أنه قال : يا رسول الله أمسح على الخفين ؟ قال : نعم ، قال : يوما ؟ قال : يوما ، قال : ويومين ؟ قال : ويومين ، قال : وثلاثة أيام ؟ قال : نعم وما شئت ، وفي رواية ( نعم وما بدا لك ) . قال أبو داود : وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي . وقال الشافعي وأحمد بن حنبل والنعمان والطبري : يمسح المقيم يوما وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام على حديث شريح وما كان مثله ; وروي عن مالك في رسالته إلى هارون أو بعض الخلفاء ، وأنكرها أصحابه .
الثانية والعشرون : والمسح عند جميعهم لمن لبس خفيه على وضوء ; لحديث المغيرة بن شعبة أنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير - الحديث - وفيه ; فأهويت [ ص: 64 ] لأنزع خفيه فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ومسح عليهما . ورأى أصبغ أن هذه طهارة التيمم ، وهذا بناء منه على أن التيمم يرفع الحدث . وشذ داود فقال : المراد بالطهارة هاهنا هي الطهارة من النجس فقط ; فإذا كانت رجلاه طاهرتين من النجاسة جاز المسح على الخفين ، وسبب الخلاف الاشتراك في اسم الطهارة .
الثالثة والعشرون : ويجوز عند مالك المسح على الخف وإن كان فيه خرق يسير : قال ابن خويز منداد : معناه أن يكون الخرق لا يمنع من الانتفاع به ومن لبسه ، ويكون مثله يمشى فيه ، وبمثل قول مالك هذا قال الليث والثوري والشافعي والطبري ; وقد روي عن الثوري والطبري إجازة المسح على الخف المخرق جملة ، وقال الأوزاعي : يمسح على الخف وعلى ما ظهر من القدم ; وهو قول الطبري ، وقال أبو حنيفة : إذا كان ما ظهر من الرجل أقل من ثلاث أصابع مسح ، ولا يمسح إذا ظهر ثلاث ; وهذا تحديد يحتاج إلى توقيف ، ومعلوم أن أخفاف الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من التابعين كانت لا تسلم من الخرق اليسير ، وذلك متجاوز عند الجمهور منهم ، وروي عن الشافعي إذا كان الخرق في مقدم الرجل أنه لا يجوز المسح عليه . وقال الحسن بن حي : يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب ، فإن ظهر شيء من القدم لم يمسح ، قال أبو عمر : هذا على مذهبه في المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين ; وهو قول الثوري وأبي يوسف ومحمد وهي :
الرابعة والعشرون : ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين ، وهو أحد قولي مالك ، وله قول آخر أنه لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين ، وفي كتاب أبي داود عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين ; قال أبو داود : وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث ; لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ; وروي هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي ولا بالمتصل . قال أبو داود : ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وأبو مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث ; وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس ; رضي الله عنهم أجمعين .
قلت : وأما المسح على النعلين فروى أبو محمد الدارمي في مسنده حدثنا أبو نعيم أخبرنا يونس عن أبي إسحاق عن عبد خير قال : رأيت عليا توضأ ومسح على النعلين فوسع ثم قال : لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق [ ص: 65 ] بالمسح من ظاهرهما ; قال أبو محمد الدارمي رحمه الله : هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى : وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين .
قلت : وقول علي - رضي الله عنه - لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما مثله قال في المسح على الخفين ، أخرجه أبو داود عنه قال : لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه . قال مالك والشافعي فيمن مسح ظهور خفيه دون بطونهما : إن ذلك يجزئه ; إلا أن مالكا قال : من فعل ذلك أعاد في الوقت ; ومن مسح على باطن الخفين دون ظاهرهما لم يجزه ; وكان عليه الإعادة في الوقت وبعده ; وكذلك قال جميع أصحاب مالك إلا شيء روي عن أشهب أنه قال : باطن الخفين وظاهرهما سواء ، ومن مسح باطنهما دون ظاهرهما لم يعد إلا في الوقت ، وروي عن الشافعي أنه قال يجزئه مسح بطونهما دون ظهورهما ; والمشهور من مذهبه أنه من مسح بطونهما واقتصر عليهما لم يجزه وليس بماسح ، وقال أبو حنيفة والثوري : يمسح ظاهري الخفين دون باطنهما ; وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وجماعة ، والمختار عند مالك والشافعي وأصحابهما مسح الأعلى والأسفل ، وهو قول ابن عمر وابن شهاب ; لما رواه أبو داود والدارقطني عن المغيرة بن شعبة قال : وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله ; قال أبو داود : روي أن ثورا لم يسمع هذا الحديث من رجاء بن حيوة .
الخامسة والعشرون : واختلفوا فيمن نزع خفيه وقد مسح عليهما على أقوال ثلاثة :
الأول : يغسل رجليه مكانه وإن أخر استأنف الوضوء ; قاله مالك والليث ، وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم ; وروي عن الأوزاعي والنخعي ولم يذكروا مكانه .
الثاني : يستأنف الوضوء ; قاله الحسن بن حي وروي عن الأوزاعي والنخعي .
الثالث : ليس عليه شيء ويصلي كما هو ; قاله ابن أبي ليلى والحسن البصري ، وهي رواية عن إبراهيم النخعي رضي الله عنهم .
السادسة والعشرون : قوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا وقد مضى في " النساء " معنى الجنب . و ( اطهروا ) أمر بالاغتسال بالماء ; ولذلك رأى عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء . وقال الجمهور من الناس : بل هذه العبارة هي لواجد الماء ، وقد ذكر الجنب بعد في أحكام عادم الماء بقوله : أو لامستم النساء والملامسة هنا الجماع ; وقد صح عن عمر وابن مسعود أنهما رجعا إلى ما عليه الناس وأن الجنب يتيمم ، وحديث عمران بن حصين نص في ذلك ، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا [ ص: 66 ] معتزلا لم يصل في القوم فقال : يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم فقال : يا رسول الله أصابتي جنابة ولا ماء . قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك أخرجه البخاري .
السابعة والعشرون : قوله تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط تقدم في " النساء " مستوفى ، ونزيد هنا مسألة أصولية أغفلناها هناك ، وهي تخصيص العموم بالعادة الغالبة ، فإن الغائط كناية عن الأحداث الخارجة من المخرجين كما بيناه في " النساء " فهو عام ، غير أن جل علمائنا خصصوا ذلك بالأحداث المعتادة الخارجة على الوجه المعتاد ، فلو خرج غير المعتاد كالحصى والدود ، أو خرج المعتاد على وجه السلس والمرض لم يكن شيء من ذلك ناقضا ، وإنما صاروا إلى اللفظ ; لأن اللفظ مهما تقرر لمدلوله عرف غالب في الاستعمال ، سبق ذلك الغالب لفهم السامع حالة الإطلاق ، وصار غيره مما وضع له اللفظ بعيدا عن الذهن ، فصار غير مدلول له ، وصار الحال فيه كالحال في الدابة ; فإنها إذا أطلقت سبق منها الذهن إلى ذوات الأربع ، ولم تخطر النملة ببال السامع فصارت غير مرادة ولا مدلولة لذلك اللفظ ظاهرا ، والمخالف يقول : لا يلزم من سبقية الغالب أن يكون النادر غير مراد ; فإن تناول اللفظ لهما واحد وضعا ، وذلك يدل على شعور المتكلم بهما قصدا ; والأول أصح ، وتتمته في كتب الأصول .
الثامنة والعشرون : قوله تعالى : أو لامستم النساء روى عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال : القبلة من اللمس ، وكل ما دون الجماع لمس ; وكذلك قال ابن عمر واختاره محمد بن يزيد قال : لأنه قد ذكر في أول الآية ما يجب على من جامع في قوله : وإن كنتم جنبا فاطهروا ، وقال عبد الله بن عباس : اللمس والمس والغشيان الجماع ، ولكنه عز وجل يكني ، وقال مجاهد في قوله عز وجل : وإذا مروا باللغو مروا كراما قال : إذا ذكروا النكاح كنوا عنه ; وقد مضى في " النساء " القول في هذا الباب مستوفى والحمد لله .
التاسعة والعشرون : قوله تعالى : فلم تجدوا ماء قد تقدم في " النساء " أن عدمه يترتب للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط ، وهو الذي يقال فيه : إنه إن لم يجد ماء ولا ترابا وخشي خروج الوقت ; اختلف الفقهاء في حكمه على أربعة أقوال : الأول : قال ابن خويز منداد : الصحيح على مذهب مالك بأنه لا يصلي ولا شيء عليه ; قال : ورواه المدنيون عن [ ص: 67 ] مالك ; قال : وهو الصحيح من المذهب ، وقال ابن القاسم : يصلي ويعيد ; وهو قول الشافعي ، وقال أشهب : يصلي ولا يعيد ، وقال أصبغ : لا يصلي ولا يقضي ; وبه قال أبو حنيفة . قال أبو عمر بن عبد البر : ما أعرف كيف أقدم ابن خويز منداد على أن جعل الصحيح من المذهب ما ذكر ، وعلى خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين ، وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك في قوله : وليسوا على ماء - الحديث - ولم يذكر أنهم صلوا ; وهذا لا حجة فيه ، وقد ذكر هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء ولم يذكر إعادة ; وقد ذهب إلى هذا طائفة من الفقهاء . قال أبو ثور : وهو القياس .
قلت : وقد احتج المزني فيما ذكره إلكيا الطبري بما ذكر في قصة القلادة عن عائشة رضي الله عنها حين ضلت ، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك ، ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بلا وضوء ولا تيمم ، والتيمم متى لم يكن مشروعا فقد صلوا بلا طهارة أصلا ، ومنه قال المزني : ولا إعادة ، وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقا عند تعذر الوصول إليها ; قال أبو عمر : ولا ينبغي حمله على المغمى عليه لأن المغمى عليه مغلوب على عقله وهذا معه عقله . وقال ابن القاسم وسائر العلماء : الصلاة عليه واجبة إذا كان معه عقله ، فإذا زال المانع له توضأ أو تيمم وصلى ، وعن الشافعي روايتان ; المشهور عنه يصلي كما هو ويعيد ; قال المزني : إذا كان محبوسا لا يقدر على تراب نظيف صلى وأعاد ; وهو قول أبي يوسف ومحمد والثوري والطبري ، وقال زفر بن الهذيل : المحبوس في الحضر لا يصلي وإن وجد ترابا نظيفا . وهذا على أصله فإنه لا يتيمم عنده في الحضر كما تقدم ، وقال أبو عمر : من قال يصلي كما هو ويعيد إذا قدر على الطهارة فإنهم احتاطوا للصلاة بغير طهور ; قالوا : وقوله عليه السلام : لا يقبل الله صلاة بغير طهور لمن قدر على طهور ; فأما من لم يقدر فليس كذلك ; لأن الوقت فرض وهو قادر عليه فيصلي كما قدر في الوقت ثم يعيد ، فيكون قد أخذ بالاحتياط في الوقت والطهارة جميعا ، وذهب الذين قالوا لا يصلي لظاهر هذا الحديث ; وهو قول مالك وابن نافع وأصبغ قالوا : من عدم الماء والصعيد لم يصل ولم يقض إن خرج وقت الصلاة ; لأن عدم قبولها لعدم شروطها يدل على أنه غير مخاطب بها حالة عدم شروطها فلا يترتب شيء في الذمة فلا يقضي ; قاله غير أبي عمر ، وعلى هذا تكون الطهارة من شروط الوجوب .
الموفية ثلاثين : قوله تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا قد مضى في " النساء " اختلافهم [ ص: 68 ] في الصعيد ، وحديث عمران بن حصين نص على ما يقوله مالك ، إذ لو كان الصعيد التراب لقال عليه السلام للرجل عليك بالتراب فإنه يكفيك ، فلما قال : عليك بالصعيد أحاله على وجه الأرض . والله أعلم . تقدم في " النساء " الكلام فيه فتأمله هناك .
الحادية والثلاثون : وإذا انتهى القول بنا في الآي إلى هنا فاعلم أن العلماء تكلموا في فضل الوضوء والطهارة وهي خاتمة الباب : قال صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري ، وقد تقدم في " البقرة " الكلام فيه ; قال ابن العربي : والوضوء أصل في الدين ، وطهارة المسلمين ، وخصوصا لهذه الأمة في العالمين ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وقال : هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء أبي إبراهيم وذلك لا يصح ; قال غيره : ليس هذا بمعارض لقوله عليه السلام : لكم سيما ليست لغيركم فإنهم كانوا يتوضئون ، وإنما الذي خص به هذه الأمة الغرة والتحجيل لا بالوضوء ، وهما تفضل من الله تعالى اختص بهما هذه الأمة شرفا لها ولنبيها صلى الله عليه وسلم كسائر فضائلها على سائر الأمم ، كما فضل نبيها صلى الله عليه وسلم بالمقام المحمود وغيره على سائر الأنبياء ; والله أعلم . قال أبو عمر : وقد يجوز أن يكون الأنبياء يتوضئون فيكتسبون بذلك الغرة والتحجيل ولا يتوضأ أتباعهم ، كما جاء عن موسى عليه السلام قال : " يا رب أجد أمة كلهم كالأنبياء فاجعلها أمتي " فقال له : " تلك أمة محمد " في حديث فيه طول ، وقد روى سالم بن عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار أنه سمع رجلا يحدث أنه رأى رؤيا في المنام أن الناس قد جمعوا للحساب ; ثم دعي الأنبياء مع كل نبي أمته ، وأنه رأى لكل نبي نورين يمشي بينهما ، ولمن اتبعه من أمته نورا واحدا يمشي به ، حتى دعي بمحمد صلى الله عليه وسلم فإذا شعر رأسه ووجهه نور كله يراه كل من نظر إليه ، وإذا لمن اتبعه من أمته نوران كنور الأنبياء ; فقال له كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا : من حدثك بهذا الحديث وما علمك به ؟ فأخبره أنها رؤيا ; فأنشده كعب ، الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ما تقول في منامك ؟ فقال : نعم والله لقد رأيت ذلك ; فقال كعب : والذي نفسي بيده - أو قال والذي بعث محمدا بالحق - إن هذه لصفة أحمد وأمته ، وصفة الأنبياء في كتاب الله ، لكان ما تقوله من التوراة . أسنده في كتاب " التمهيد " قال أبو عمر : وقد قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضئون والله أعلم ; وهذا لا أعرفه من وجه صحيح ، وخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو آخر [ ص: 69 ] قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة كان مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر السماء ، حتى يخرج نقيا من الذنوب ، وحديث مالك عن عبد الله الصنابحي أكمل ، والصواب أبو عبد الله لا عبد الله ، وهو مما وهم فيه مالك ، واسمه عبد الرحمن بن عسيلة تابعي شامي كبير لإدراكه أول خلافة أبي بكر ; قال أبو عبد الله الصنابحي : قدمت مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فلما وصلنا الجحفة إذا براكب قلنا له ما الخبر ؟ قال : دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ثلاثة أيام . وهذه الأحاديث وما كان في معناها من حديث عمرو بن عبسة وغيره تفيدك أن المراد بها كون الوضوء مشروعا عبادة لدحض الآثام ; وذلك يقتضي افتقاره إلى نية شرعية ; لأنه شرع لمحو الإثم ورفع الدرجات عند الله تعالى .
الثانية والثلاثون : قوله تعالى : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج أي : من ضيق في الدين ; دليله قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج . و ( من ) صلة ؛ أي : ليجعل عليكم حرجا . ولكن يريد ليطهركم أي : من الذنوب كما ذكرنا من حديث أبي هريرة والصنابحي ، وقيل : من الحدث والجنابة ، وقيل : لتستحقوا الوصف بالطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة . وقرأ سعيد بن المسيب " ليطهركم " والمعنى واحد ، كما يقال : نجاه وأنجاه . وليتم نعمته عليكم أي : بالترخيص في التيمم عند المرض والسفر ، وقيل : بتبيان الشرائع ، وقيل : بغفران الذنوب ; وفي الخبر ( تمام النعمة دخول الجنة والنجاة من النار ) . لعلكم تشكرون أي : لتشكروا نعمته فتقبلوا على طاعته .


