1742 977 - (1740) - (1 \ 201 - 202 - 203) عن أم سلمة بنة أبي أمية بن المغيرة ; زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : لما نزلنا أرض الحبشة ، جاورنا بها خير جار ، النجاشي ، أمنا على ديننا ، وعبدنا الله لا نؤذى ، ولا نسمع شيئا نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشا ، ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين ، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة ، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم ، فجمعوا له أدما كثيرا ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية ، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي ، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي ، وأمروهما أمرهم ، وقالوا لهما : ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن يكلموا النجاشي فيهم ، ثم قدموا للنجاشي هداياه ، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم .
قالت : فخرجا ، فقدما على النجاشي ، ونحن عنده بخير دار ، وعند خير جار ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ، ثم قالا لكل بطريق منهم : إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم ، فتشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ، ولا يكلمهم ; فإن قومهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم . فقالوا لهما : نعم .
[ ص: 211 ] ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي ، فقبلها منهما ، ثم كلماه ، فقالا له : أيها الملك ! إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ، ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم ، وأعمامهم ، وعشائرهم ، لتردهم إليهم ، فهم أعلاهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم ، وعاتبوهم فيه .
قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم ، فقالت : بطارقته حوله : صدقوا أيها الملك ، قومهم أعلاهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم ، فأسلمهم إليهما ، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم . قالت : فغضب النجاشي ، ثم قال : لا ها ايم الله إذا لا أسلمهم إليهما ، ولا أكاد ، قوما جاوروني ، ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي ، حتى أدعوهم فأسألهم : ما يقول هذان في أمرهم ; فإن كانوا كما يقولان ، أسلمتهم إليهما ، ورددتهم إلى قومهم ، وإن كانوا على غير ذلك ، منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم ما جاوروني .
قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله ، اجتمعوا ، ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه ; قالوا : نقول والله ما علمنا ، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم ، كائن في ذلك ما هو كائن . فلما جاءوه ، وقد دعا النجاشي أساقفته ، فنشروا مصاحفهم حوله ، سألهم ، فقال : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا في ديني ، ولا في دين أحد من هذه الأمم ؟ قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب ، فقال له : أيها الملك ! كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، يأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه ، وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان .
[ ص: 212 ] وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة . وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت : فعدد عليه أمور الإسلام - ، فصدقناه ، وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ; ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا ، وشقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلدك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك .
قالت : فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت : فقال له جعفر : نعم . فقال له النجاشي : فاقرأه علي ، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) ، قالت : فبكى - والله - النجاشي حتى أخضل لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ، ولا أكاد .
قالت أم سلمة : فلما خرجا من عنده ، قال عمرو بن العاص : والله لأنبئنه غدا عيبهم عنده ، ثم أستأصل به خضراءهم .
قالت : فقال له عبد الله بن أبي ربيعة ، وكان أتقى الرجلين فينا : لا تفعل ، فإن لهم أرحاما ، وإن كانوا قد خالفونا ، قال : والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد . قالت : ثم غدا عليه الغد ، فقال له : أيها الملك : إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما ، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه . قالت : فأرسل إليهم يسألهم عنه .
[ ص: 213 ] قالت : ولم ينزل بنا مثلها ، فاجتمع القوم ، فقال بعضهم لبعض : ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه ؟ قالوا : نقول - والله - فيه ما قال الله ، وما جاء به نبينا ، كائنا في ذلك ما هو كائن . فلما دخلوا عليه ، قال لهم : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ فقال له جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاء به نبينا : هو عبد الله ورسوله وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
قالت : فضرب النجاشي يده إلى الأرض ، فأخذ منها عودا ، ثم قال : ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود . فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال ، فقال : وإن نخرتم والله ، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم : الآمنون - ، من سبكم غرم ، ثم من سبكم غرم ، ثم من سبكم غرم ، فما أحب أن لي دبرا ذهبا وأني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسان الحبشة : الجبل - ، ردوا عليهما هداياهما ، فلا حاجة لنا بها ، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه .
قالت : فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار .
قالت : فوالله ! إنا على ذلك إذ نزل به ، يعني : من ينازعه في ملكه ، قالت : فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك ، تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي ، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه .
قالت : وسار النجاشي ، وبينهما عرض النيل ، قالت : فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ، ثم يأتينا بالخبر ؟ قالت : فقال الزبير بن العوام : أنا .
قالت : وكان من أحدث القوم سنا ، قالت : فنفخوا له قربة ، فجعلها في صدره ، ثم سبح عليها ، حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ، ثم انطلق حتى حضرهم ، قالت : ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين
[ ص: 214 ] له في بلاده ، واستوسق عليه أمر الحبشة ، فكنا عنده في خير منزل ، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة .


