( قوله وقنت في ثالثته قبل الركوع أبدا ) لما أخرجه النسائي عن أبي بن كعب { أنه عليه الصلاة والسلام كان يقنت قبل الركوع } وما في حديث أنس من { أنه عليه السلام قنت بعد الركوع } فالمراد منه أن ذلك كان شهرا منه فقط بدليل ما في الصحيح عن عاصم الأحول سألت أنسا عن القنوت في الصلاة قال نعم قلت أكان قبل الركوع أو بعده قال قبله قلت فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعده قال كذب إنما { قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا } وظاهر الأحاديث يدل على القنوت في جميع السنة وأما ما رواه أبو داود أن عمر رضي الله عنه جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي بهم عشرين ليلة من الشهر يعني رمضان ولا يقنت بهم إلا في النصف الثاني فإذا كان العشر الأواخر تخلف فصلى في بيته فلا يدل على تخصيصه بالنصف الثاني من رمضان لأن القنوت فيه يحتمل أن يكون طول القيام فإنه يقال عليه كما يقال على الدعاء و ترجح الأول لتخصيص النصف الأخير بزيادة الاجتهاد فليس هو المتنازع فيه والكلام في القنوت في خمسة مواضع في صفته ومحل أدائه ومقداره ودعائه وحكمه إذا فات أما الأول فقد ذكره المصنف في باب صفة الصلاة من الواجبات وهو مذهب أبي حنيفة وعندهما سنة كالوتر ويشهد للوجوب { قوله صلى الله عليه وسلم للحسن حين علمه القنوت اجعل هذا في وترك } والأمر للوجوب لكنه تعقبه في فتح القدير بأنه لم يثبت ومنهم من حاول الاستدلال بالمواظبة المفادة من الأحاديث وهو [ ص: 44 ] متوقف على كونها غير مقرونة بالترك مرة لكن مطلق المواظبة أعم من المقرونة به أحيانا وغير المقرونة ولا دلالة للأعم على الأخص وإلا لوجبت بهذه الكلمات عينا أو كانت أولى من غيرها لكن المتقرر عندهم الدعاء المعروف اللهم إنا نستعينك كما سيأتي ا هـ .
وأطلقه فشمل الأداء والقضاء فلذا قالوا ومن يقضي الصلوات والأوتار يقنت في الأوتار احتياطا وعلله الولوالجي في فتاويه بأنه إن كان عليه الوتر كان عليه القنوت وإن لم يكن عليه الوتر فالقنوت يكون في التطوع والقنوت في التطوع لا يضر ا هـ .
وهو يقتضي أن قضاءه ليس لكونه لم يؤد حقيقة بل احتياطا وليس هو بمستحب قال في مآل الفتاوى ولو لم يفته شيء من الصلوات وأحب أن يقضي جميع الصلوات التي صلاها متداركا لا يستحب له ذلك إلا إذا كان غالب ظنه فساد ما صلى ورد النهي عنه صلى الله عليه وسلم وما حكي عن أبي حنيفة أنه قضى صلاة عمره فإن صح النقل فنقول كان يصلي المغرب والوتر أربع ركعات بثلاث قعدات ا هـ .
وفي التجنيس شك في الوتر وهو في حالة القيام أنه في الثانية أم في الثالثة يتم تلك الركعة ويقنت فيها لجواز أنها الثالثة ثم يقعد فيقوم فيضيف إليها ركعة أخرى ويقنت فيها أيضا وهو المختار فرق بين هذا وبين المسبوق بركعتين في الوتر في شهر رمضان إذا قنت مع الإمام في الركعة الأخيرة من صلاة الإمام حيث لا يقنت في الركعة الأخيرة إذا قام إلى القضاء في قولهم جميعا والفرق أن تكرار القنوت في موضعه ليس بمشروع وهاهنا أحدهما في موضعه والآخر ليس في موضعه فجاز فأما المسبوق فهو مأمور بأن يقنت مع الإمام فصار ذلك موضعا له فلو أتى بالثاني كان ذلك تكرارا للقنوت في موضعه ا هـ .
وفي المحيط معزيا إلى الأجناس لو شك أنه في الأولى أو في الثانية أو في الثالثة فإنه يقنت في الركعة التي هو فيها ثم يقعد ثم يقوم فيصلي ركعتين بقعدتين ويقنت فيهما احتياطا وفي قول آخر لا يقنت في الكل أصلا لأن القنوت في الركعة الثانية والأولى بدعة وترك السنة أسهل من الإتيان بالبدعة والأول أصح لأن القنوت واجب وما تردد بين الواجب والبدعة يأتي به احتياطا ا هـ .
وفي الذخيرة إن قنت في الأولى أو في الثانية ساهيا لم يقنت في الثالثة لأنه لا يتكرر في الصلاة الواحدة ا هـ .
وفيه نظر لأنه إذا كان مع الشك في كونه في محله يعيده ليقع في محله كما قدمناه فمع اليقين بكونه في غير محله أولى أن يعيده كما لو قعد بعد الأولى ساهيا لا يمنعه أن يقعد بعد الثانية ولعل ما في الذخيرة مبني على القول الضعيف القائل بأنه لا يقنت في الكل أصلا كما لا يخفى وأما الثاني فقد ذكرناه وأما مقداره فقد ذكر الكرخي أن مقدار القيام في القنوت مقدار سورة { إذا السماء انشقت } وكذا ذكر في [ ص: 45 ] الأصل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه كان يقرأ في القنوت اللهم إنا نستعينك ، اللهم اهدنا } وكلاهما على مقدار هذه السورة وروي { أنه عليه السلام كان لا يطول في دعاء القنوت } كذا في البدائع
وأما دعاؤه فليس فيه دعاء مؤقت كذا ذكر الكرخي في كتاب الصلاة لأنه روي عن الصحابة أدعية مختلفة في حال القنوت ولأن المؤقت من الدعاء يذهب بالرقة كما روي عن محمد فيبعد عن الإجابة ولأنه لا يؤقت في القراءة لشيء من الصلوات ففي دعاء القنوت أولى وقال بعض مشايخنا المراد من قوله ليس فيه دعاء مؤقت ما سوى اللهم إنا نستعينك لأن الصحابة اتفقوا عليه فالأولى أن يقرأه ولو قرأ غيره جاز ولو قرأ معه غيره كان حسنا والأولى أن يقرأ بعده ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي في قنوته { اللهم اهدني فيمن هديت } إلى آخره وقال بعضهم الأفضل في الوتر أن يكون فيه دعاء مؤقت لأن الإمام ربما يكون جاهلا فيأتي بدعاء يشبه كلام الناس فتفسد صلاته وما روي عن محمد من أن التوقيت في الدعاء يذهب برقة القلب محمول على أدعية المناسك دون الصلاة كذا في البدائع
و رجح في شرح منية المصلي قول الطائفة الثانية لما ذكروا وتبركا بالمأثور الوارد به الأخبار وتوارثه الخلف عن السلف في سائر الأعصار ا هـ .
لكن ذكر الإسبيجابي أن ظاهر الرواية عدم توقيته ثم إن الدعاء المشهور عند أبي حنيفة اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق لكن في المقدمة الغزنوية إن عذابك الجد ولم يذكره في الحاوي القدسي إلا أنه أسقط الواو من نخلع والظاهر ثبوتهما أما إثبات الجد ففي مراسيل أبي داود وأما إثبات الواو في ونخلع ففي رواية الطحاوي والبيهقي وبه اندفع ما ذكره الشمني في شرح النقاية أنه لا يقول الجد واتفقوا على أنه بكسر الجيم بمعنى الحق واختلفوا في ملحق وصحح الإسبيجابي كسر الحاء بمعنى لاحق بهم وقيل بفتحها ونص الجوهري على أنه صواب وأما نحفد فهو بفتح النون وكسر الفاء وبالدال المهملة من الحفد بمعنى السرعة ويجوز ضم النون يقال حفد بمعنى أسرع وأحفد لغة فيه حكاها ابن مالك في فعل وأفعل وصرح قاضي خان في فتاويه بأنه لو قرأها بالذال المعجمة بطلت صلاته ولعله لأنها كلمة مهملة لا معنى لها ثم اعلم أن المشايخ اختلفوا في حقيقة القنوت الذي هو واجب عنده فنقل في المجتبى عن شرح المؤذني القنوت طول القيام دون الدعاء وعن أبي عمرو لا أعرف من القنوت إلا طول القيام وبه فسر قوله تعالى { أمن هو قانت آناء الليل } وعن الفتاوى الصغرى القنوت في الوتر هو الدعاء دون القيام ا هـ .
وينبغي تصحيحه ومن لا يحسن القنوت بالعربية أو لا يحفظه ففيه ثلاثة أقوال مختارة قيل يقول يا رب ثلاث مرات ثم يركع وقيل يقول اللهم اغفر لي ثلاث مرات وقيل اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار والظاهر أن الاختلاف في الأفضلية لا في الجواز وأن الأخير أفضل لشموله وأن التقييد بمن لا يحسن العربية ليس بشرط بل يجوز لمن يعرف الدعاء المعروف أن يقتصر على واحد مما ذكر لما علمت أن ظاهر الرواية عدم توقيته وأما حكمه إذا فات محله فنقول إذا نسي القنوت حتى ركع ثم تذكر فإن كان بعد رفع الرأس من الركوع لا يعود وسقط عنه القنوت وإن تذكره في الركوع فكذلك في ظاهر الرواية كما في البدائع وصححه في الخانية وعن أبي يوسف أنه يعود إلى القنوت لشبهه بالقرآن كما لو ترك الفاتحة أو السورة فتذكرها في الركوع أو بعد رفع الرأس منه فإنه يعود وينتقض ركوعه والفرق على
ظاهر الرواية أن نقض الركوع في المقيس عليه لا كماله لأنه [ ص: 46 ] يتكامل بقراءة الفاتحة والسورة لكونه لا يعتبر بدون القراءة أصلا وفي المقيس ليس نقضه لا كماله لأنه لا قنوت في سائر الصلوات والركوع معتبر بدونه فلو نقض لكان نقض الفرض للواجب كذا في البدائع فإن عاد إلى القيام وقنت ولم يعد الركوع لم تفسد صلاته لأن ركوعه قائم لم يرتفض بخلاف المقيس عليه لأن بعوده صارت قراءة الكل فرضا والترتيب بين القراءة والركوع فرض فارتفض ركوعه فلو لم يركع بطلت فلو ركع وأدركه رجل في الركوع الثاني كان مدركا لتلك الركعة وإنما لم يشرع القنوت في الركوع مثل تكبيرات العيد إذا تذكرها في حال الركوع حيث يكبر فيه لأنه لم يشرع إلا في محض القيام غير معقول المعنى فلا يتعدى إلى ما هو قيام من وجه دون وجه وهو الركوع وأما تكبيرات العيد فلم تختص بمحض القيام لأن تكبيرة الركوع يؤتى بها في حال الانحطاط وهي محسوبة من تكبيرات العيد بإجماع الصحابة
فإذا جاز أداء واحدة منها في غير محض القيام من غير عذر جاز أداء الباقي مع قيام العذر بالأولى ولم يقيد المصنف القنوت بالمخافتة للاختلاف فيه قال في الذخيرة استحسنوا الجهر في بلاد العجم للإمام ليتعلموا كما جهر عمر رضي الله عنه بالثناء حين قدم عليه وفد العراق ونص في الهداية على أن المختار المخافتة وفي المحيط على أنه الأصح وفي البدائع واختار مشايخنا بما وراء النهر الإخفاء في دعاء القنوت في حق الإمام والقوم جميعا لقوله تعالى { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { خير الدعاء الخفي } وهو مروي في صحيح ابن حبان وفصل بعضهم بين أن يكون القوم لا يعلمونه فالأفضل للأم الجهر ليتعلموا وإلا فالإخفاء أفضل كما في الذخيرة ومن اختار الجهر به أن يكون دون جهر القراءة كما في منية المصلي .


