( قوله : أو لبس مخيطا أو غطى رأسه [ ص: 7 ] يوما ، وإلا تصدق ) معطوف على طيب بيان للثاني والثالث من النوع الأول وجمع بينهما ; لأن الحكم فيهما واحد من حيث التقدير بالزمان فإن قوله يوما راجع إلى اللبس والتغطية ، وكذا قوله : وإلا تصدق أي ، وإن كان لبس المخيط وتغطية الرأس أقل من يوم لزمه صدقة لما علم أن كمال العقوبة بكمال الجناية ، وهو بكمال الارتفاق ، وهو بالدوام ; لأن المقصود من كل منهما دفع الحر والبرد ، واليوم يشتمل عليهما فوجب الدم والجناية قاصرة فيما دونه فوجبت الصدقة . والتحقيق أن تغطية الرأس من جملة لبس المخيط فهي جناية واحدة لما سيأتي أنه لو لبس القميص والعمامة يلزمه دم واحد عللوا بأن الجناية واحدة وحقيقة لبس المخيط أن يحصل بواسطة الخياطة اشتمال على البدن واستمساك فلذا لو ارتدى بالقميص أو اتشح أو ائتزر بالسراويل فلا بأس به ; لأنه لم يلبسه لبس المخيط لعدم الاشتمال ، وكذا لو أدخل منكبيه في القباء ، ولم يدخل يديه في الكمين ، ولم يزره لعدم الاشتمال أما إذا أدخل يديه أو زره فهو لبس المخيط لوجودهما بخلاف الرداء فإنه إذا اتزر به لا ينبغي أن يعقده بحبل أو غيره ، ومع هذا لو فعل لا شيء عليه ; لأنه لم يلبسه لبس المخيط لعدم الاشتمال أطلق في اللبس فشمل ما إذا أحدث اللبس بعد الإحرام أو أحرم ، وهو لابسه فدام على ذلك بخلاف انتفاعه بعد الإحرام بالطيب السابق عليه قبله للنص ، ولولاه لأوجبنا فيه أيضا وشمل ما إذا كان ناسيا أو عامدا عالما أو جاهلا مختارا أو مكرها فيجب الجزاء على النائم لو غطى إنسان رأسه ; لأن الارتفاق حصل له ، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه كالنائم المنقلب على شيء أتلفه ، وشمل ما إذا لبس ثوبا واحدا أو جمع اللباس كله القميص والعمامة والخفين ولذا لم يقل لبس ثوبا كغيره .
وبين المصنف حكم اليوم ، وما دونه ، ولم يذكر حكم الزائد عليه ليفيد أنه كاليوم فلو لبس المخيط ودام عليه أياما أو كان ينزعه ليلا ويعاوده نهارا أو عكسه يلزمه دم واحد ما لم يعزم على الترك عند النزع فإن عزم عليه ثم لبس تعدد الجزاء كفر للأول أولا ، وفي الثاني خلاف محمد ، ولو لبس يوما فأراق دما ثم داوم على لبسه يوما آخر كان عليه دم آخر بلا خلاف ; لأن للدوام فيه حكم الابتداء ، وفي الفتاوى الظهيرية ، وعندي المودع إذا لبس قميص الوديعة بغير إذن المودع فنزعه بالليل للنوم فسرق القميص في الليل فإن كان من قصده أن يلبس القميص من الغد لا يعد هذا ترك الخلاف والعود إلى الوفاق حتى يضمن ، وإن كان من قصده أن لا يلبس القميص من الغد كان هذا ترك الخلاف حتى لا يضمن . فالحاصل أن اللبس شيء [ ص: 8 ] واحد ما لم يتركه ويعزم على الترك . ا هـ .
واعلم أن ما ذكرناه من إيجاب الجزاء إذا لبس جميع المخيط محله ما إذا لم يتعدد سبب اللبس فإن تعدد كما إذا اضطر إلى لبس ثوب فلبس ثوبين فإن لبسهما على موضع الضرورة فعليه كفارة واحدة يتخير فيها ، وإن لبسهما على موضع الضرورة وغيره لزمه كفارتان يتخير فيها للضرورة فقط ، ومن صور تعدد اللبس واتحاده ما إذا كان به مثلا حمى يحتاج إلى اللبس لها ويستغني عنه في وقت زوالها فإن عليه كفارة واحدة ، وإن تعدد اللبس ما لم تزل عنه فإن زالت ، وأصابه مرض آخر أو حمى غيرها فعليه كفارتان كفر للأولى أو لا خلافا لمحمد في الثاني ، وكذا إذا حصره عدو فاحتاج إلى اللبس للقتال أياما يلبسها إذا خرج إليه وينزعها إذا رجع فعليه كفارة واحدة ما لم يذهب هذا العدو فإن ذهب وجاء عدو غيره لزمه كفارة أخرى . والأصل في جنس هذه المسائل أنه ينظر إلى اتحاد الجهة واختلافها لا إلى صورة اللبس كيف كانت ، ولو لبس لضرورة فزالت فدام بعدها يوما ويومين فما دام في شك من زوال الضرورة فليس عليه إلا كفارة واحدة ، وإن تيقن زوالها كان عليه كفارة أخرى لا يتخير فيها هكذا ذكروا ، وذكر الحلبي في مناسكه أن مقتضاه أنه إذا لبس شيئا من المخيط لدفع برد ثم صار ينزع ويلبس كذلك ثم زال ذلك البرد ثم أصابه برد آخر غير الأول عرف ذلك بوجه من الوجوه المفيدة لمعرفته فلبس لذلك أنه يجب عليه كفارتان . ا هـ .
وشمل كلامه أيضا ما إذا لم يجد غير المخيط فلذا قال في المجمع : ولو لم يجد إلا السراويل فلبسه ، ولم يفتقه نوجبه أي الدم ، وأطلق في التغطية فانصرفت إلى الكامل ، وهو ما يغطي به عادة كالقلنسوة والعمامة فخرج ما لا يغطى به عادة كالطست والإجانة والعدل فلا شيء عليه ، وعلى هذا يفرع ما في الظهيرية ما لو دخل المحرم تحت ستر الكعبة فإن كان يصيب وجهه ورأسه فهو مكروه لا شيء عليه ، وإلا فلا بأس به وظاهر ما في المتون يقتضي أنه لا بد من تغطية جميع الرأس في لزوم الدم ، وما رأيته رواية ، ولهذا لم يصرحوا بحكم ما دونها ، وإنما المنقول عن الأصل اعتبار الربع ، ومشى عليه [ ص: 9 ] كثير واختاره في الظهيرية مقتصرا عليه ، وعزاه في الهداية إلى أنه عن أبي حنيفة ، وعن محمد اعتبار الأكثر ، وهو مروي عن أبي يوسف أيضا كما اعتبر أكثر اليوم في لزوم الدم واختاره في فتح القدير من جهة الدراية فالحاصل أن الربع راجح رواية والأكثر راجح دراية باعتبار أن تكامل الجناية لا يحصل بما دون الأكثر بخلاف حلق ربع الرأس فإنه معتاد ويتفرع على هذا ما لو عصب رأسه بعصابة فعلى اعتبار الربع إن أخذت قدره من الرأس لزمه دم ، وإن كان أقل فصدقة فما في المبسوط والظهيرية من أنه لو عصب رأسه يوما فعليه صدقة محمول على ما إذا لم تأخذ قدر الربع أو مفرع على اعتبار الأكثر .
وأراد بالرأس عضوا يحرم تغطيته على المحرم فدخل الوجه فلو غطى ربعه لزمه دم رجلا كان أو امرأة وخرج ما لا يحرم تغطيته فلا شيء عليه لو عصب موضعا آخر من جسده ، ولو كثر لكنه يكره من غير عذر كعقد الإزار وتخليل الرداء ، ولا بأس بأن يغطي أذنيه وقفاه ، ومن لحيته ما هو أسفل من الذقن بخلاف فيه ، وعارضه وذقنه ، ولا بأس بأن يضع يده على أنفه دون ثوب وبين المصنف حكم اليوم ، وما دونه فأفاد أن الليلة كاليوم كما صرح به في غاية البيان والمحيط ; لأن الارتفاق الكامل الحاصل في اليوم حاصل في الليلة ، وإن ما دونها كما دونه ، وأطلق في وجوب الصدقة فيما دون اليوم فشمل الساعة الواحدة ، وما دونها خلافا لما في خزانة الأكمل أنه في ساعة واحدة نصف صاع ، وفي أقل من ساعة قبضة من بر ولما روي عن محمد أن في لبس بعض اليوم قسطه من الدم كثلث اليوم فيه ثلث الدم ، وفي نصفه نصفه ، ومن الغريب ما في فتاوى الظهيرية هنا فإن لبس ما لا يحل له لبسه من غير ضرورة أراق لذلك دما فإن لم يجد صام ثلاثة أيام . ا هـ .
فإن الصوم لا مدخل له في وجوب الجناية بل يكون الدم في ذمته إلى الميسرة ، وإنما يدخل الصوم فيما إذا فعل شيئا للعذر كما سيأتي .


