قوله تعالى : " وحرام على قرية " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : ( وحرام ) بألف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، [ ص: 387 ] وأبو بكر عن عاصم : ( وحرم ) بكسر الحاء من غير ألف ، وهما لغتان ، يقال : حرم وحرام . وقرأ معاذ القارئ ، وأبو المتوكل ، وأبو عمران الجوني : ( حرم ) بفتح الحاء وسكون الراء من غير ألف والميم مرفوعة منونة . وقرأ سعيد بن جبير : ( وحرم ) بفتح الحاء وسكون الراء وفتح الميم من غير تنوين ولا ألف . وقرأ أبو الجوزاء ، وعكرمة ، والضحاك : ( وحرم ) بفتح الحاء والميم وكسر الراء من غير تنوين ولا ألف . وقرأ سعيد بن المسيب ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء : ( وحرم ) بفتح الحاء وضم الراء ونصب الميم من غير ألف .
وفي معنى قوله تعالى : " وحرام " قولان :
أحدهما : واجب ، قاله ابن عباس ، وأنشدوا في معناه :
فإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على عمرو
أي : واجب .
والثاني : أنه بمعنى العزم ، قاله سعيد بن جبير . وقال عطاء : حتم من الله ، والمراد بالقرية : أهلها .
ثم في معنى الآية أربعة أقوال :
أحدها : واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : واجب عليها أنها إذا أهلكت لا ترجع إلى دنياها ، هذا قول قتادة ، وقد روي عن ابن عباس نحوه . [ ص: 388 ]
والثالث : أن " لا " زائدة ، والمعنى : حرام على قرية مهلكة أنهم يرجعون إلى الدنيا ، قاله ابن جريج ، وابن قتيبة في آخرين .
والرابع : أن الكلام متعلق بما قبله ; لأنه لما قال : " فلا كفران لسعيه " ، أعلمنا أنه قد حرم قبول أعمال الكفار ، فمعنى الآية : وحرام على قرية أهلكناها أن يتقبل منهم عمل ; لأنهم لا يتوبون ، هذا قول الزجاج .
فإن قيل : كيف يصح أن يحرم على الإنسان ما ليس من فعله ، ورجوعهم بعد الموت ليس إليهم ؟
فالجواب : أن المعنى : منعوا من ذلك كما يمنع الإنسان من الحرام وإن قدر عليه ، فكان التشبيه بالتحريم للحالتين من حيث المنع .
قوله تعالى : " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " وقرأ ابن عامر : ( فتحت ) بالتشديد ، والمعنى : فتح الردم عنهم . " وهم من كل حدب " قال ابن قتيبة : من كل نشز من الأرض وأكمة ، " ينسلون " من النسلان ، وهو مقاربة الخطو مع الإسراع ، كمشي الذئب إذا بادر ، والعسلان مثله . وقال الزجاج : [ ص: 389 ] الحدب : كل أكمة ، و " ينسلون " : يسرعون . وقرأ أبو رجاء العطاردي وعاصم الجحدري : ( ينسلون ) بضم السين .
وفي قوله تعالى : " وهم " قولان :
أحدهما : أنه إشارة إلى يأجوج ومأجوج ، قاله الجمهور .
والثاني : إلى جميع الناس ، فالمعنى : وهم يحشرون إلى الموقف ، قاله مجاهد . والأول أصح .
فإن قيل : أين جواب " حتى " ؟ ففيه قولان :
أحدهما : أنه قوله تعالى: " واقترب الوعد الحق " ، والواو في قوله تعالى : " واقترب " زائدة ، قاله الفراء . قال : ومثله : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها [ الزمر : 73 ] ، وقوله تعالى : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه [ الصافات : 103 ، 104 ] ، المعنى : نادينا . وقال عبد الله بن مسعود : الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج ، كالحامل المتم ، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ، ليلا أو نهارا .
والثاني : أنه قول محذوف في قوله : " يا ويلنا " ، فالمعنى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد ، قالوا : يا ويلنا . قال الزجاج : هذا قول البصريين . فأما " الوعد الحق " فهو القيامة .
قوله تعالى : " فإذا هي " ، في " هي " أربعة أقوال :
أحدها : أن " هي " كناية عن الأبصار ، والأبصار تفسير لها ، كقول الشاعر :
لعمرو أبيها لا تقول ظعينتي ألا فر عني مالك بن أبي كعب
فذكر الظعينة ، وقد كنى عنها في ( لعمرو أبيها ) . [ ص: 390 ]
والثاني : أن " هي " [ ضمير فصل ] وعماد ، ويصلح في موضعها " هو " ، ومثله قوله : إنه أنا الله [ النمل : 9 ] ، وقوله : فإنها لا تعمى الأبصار [ الحج : 46 ] ، وأنشدوا :
بثوب ودينار وشاة ودرهم فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس
ذكرهما الفراء .
والثالث : أن يكون تمام الكلام عند قوله : " هي " على معنى : فإذا هي بارزة واقفة ، يعني : من قربها ، كأنها آتية حاضرة ، ثم ابتدأ فقال : " شاخصة " ، ذكره الثعلبي .
والرابع : أن " هي " كناية عن القصة ، والمعنى : القصة أن أبصارهم شاخصة في ذلك اليوم ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري . قال المفسرون : تشخص أبصار الكفار من هول يوم القيامة ، ويقولون : " يا ويلنا قد كنا " ; أي : في الدنيا ، " في غفلة من هذا " ; أي : عن هذا ، " بل كنا ظالمين " أنفسنا بكفرنا ومعاصينا . ثم خاطب أهل مكة فقال : " إنكم وما تعبدون من دون الله " يعني : الأصنام ، " حصب جهنم " وقرأ علي بن أبي طالب ، وأبو العالية ، وعمر بن عبد العزيز : ( حطب ) بالطاء . وقرأ ابن عباس ، وعائشة ، وابن السميفع : ( حضب ) بالضاد المعجمة المفتوحة . وقرأ عروة ، وعكرمة ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : ( حضب جهنم ) بإسكان الضاد المعجمة . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو حيوة ، ومعاذ القارئ : ( حضب ) بكسر الحاء مع تسكين الضاد المعجمة . وقرأ أبو مجلز ، [ ص: 391 ] وأبو رجاء ، وابن محيصن : ( حصب ) بفتح الحاء وبصاد غير معجمة ساكنة . قال الزجاج : من قرأ : ( حصب جهنم ) فمعناه : كل ما يرمى به فيها ، ومن قرأ : ( حطب ) فمعناه : ما توقد به . ومن قرأ بالضاد المعجمة فمعناه : ما تهيج به النار وتذكى به . قال ابن قتيبة : الحصب : ما ألقي فيها ، وأصله من الحصباء ، وهو الحصى ، يقال : حصبت فلانا : إذا رميته حصبا ، بتسكين الصاد ، وما رميت به فهو حصب ، بفتح الصاد .
قوله تعالى : " أنتم " يعني : العابدين والمعبودين ، " لها واردون " ; أي : داخلون . " لو كان هؤلاء " يعني : الأصنام ، " آلهة " على الحقيقة ، " ما وردوها " فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه إشارة إلى الأصنام ، والمعنى : لو كانوا آلهة ما دخلوا النار .
والثاني : أنه إشارة إلى عابديها ، فالمعنى : لو كانت الأصنام آلهة ، منعت عابديها دخول النار .
والثالث : أنه إشارة إلى الآلهة وعابديها ، بدليل قوله تعالى : " وكل فيها خالدون " يعني : العابد والمعبود .
قوله تعالى : " لهم فيها زفير " قد شرحنا معنى الزفير في ( هود : 106 ) . وفي علة كونهم لا يسمعون ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه يوضع في مسامعهم مسامير من نار ، ثم يقذفون في توابيت من نار مقفلة عليهم ، رواه أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل . وقال ابن مسعود : إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار ، [ ص: 392 ] ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى ، فلا يسمعون شيئا ، ولا يرى أحدهم أن في النار أحدا يعذب غيره .
والثاني : أن السماع أنس ، والله لا يحب أن يؤنسهم ، قاله عون بن عمارة .
والثالث : إنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنم ، قاله أبو سليمان الدمشقي .


