وأما قوله [1] : إن هذا ينفي الوثوق ويوجب التنفير ، فليس [ هذا ] [2] بصحيح [ فيما قبل النبوة ولا فيما يقع خطأ ، ولكن غايته أن يقال : هذا موجود فيما تعمد [3] من الذنب . فيقال ] [4] : بل [5] إذا اعترف الرجل الجليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى توبته واستغفاره ومغفرة الله [ له ] [6] ورحمته دل ذلك على صدقه وتواضعه وعبوديته لله وبعده عن الكبر والكذب ، بخلاف من يقول : ما بي [7] حاجة إلى شيء من هذا ولا يصدر [ مني ] [8] ما يحوجني إلى مغفرة الله لي وتوبته علي ، ويصر [9] على كل ما يقوله ويفعله بناء [10] على [ ص: 404 ] أنه [ لا ] يصدر منه [11] ما يرجع عنه ، فإن مثل هذا إذا عرف من رجل نسبه [12] . الناس إلى الكذب والكفر والجهل . وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لن يدخل أحد منكن الجنة بعمله " . قالوا : ولا أنت [ يا رسول الله ] [13] ؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " [14] ، فكان هذا من أعظم ممادحه [15] .
وكذلك قوله [ - صلى الله عليه وسلم - ] [16] : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم [17] فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله " [18] . وكل من سمع هذا عظمه بمثل هذا الكلام . [ ص: 405 ] وفي الصحيحين عنه أنه كان يقول : " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، [ اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي ، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني ] [19] ، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير " [20] . [21] [ وهذا كما أنه لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني " رواه أبو داود وغيره [22] ) . ، وقال : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " رواه مالك وغيره [23] . - كان [ ص: 406 ] هذا التواضع مما زاده الله به رفعة . وكذلك لما سجد له بعض أصحابه فنهاه عن ذلك وقال : " إنه لا يصلح السجود إلا لله " [24] . . وكذلك لما كان بعض الناس يقول : ما شاء الله وشاء محمد ، قال : " أجعلتني ندا لله ؟ ! قل ما شاء الله ثم شاء محمد " [25] . . وقوله في دعائه : " أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المعترف المقر بذنبه ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف ، من خضعت له رقبته ، وذل جسده ، ورغم أنفه لك " [26] . . ونحو [ ص: 407 ] هذه الأحوال التي رفع الله بها درجاته بما اعترف به من فقر العبودية وكمال الربوبية ] [27] . . والغنى عن الحاجة من خصائص الربوبية ، فأما العبد [ فكماله ] [28] ) . في حاجته إلى ربه وعبوديته وفقره وفاقته فكلما [29] . كانت عبوديته أكمل كان أفضل وصدور ما يحوجه إلى التوبة والاستغفار مما يزيده عبودية وفقرا وتواضعا .
ومن المعلوم أن ذنوبهم ليست كذنوب غيرهم ، بل كما يقال : " حسنات الأبرار سيئات المقربين " لكن كل يخاطب [30] . على قدر مرتبته ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " [31]
وما ذكره من عدم الوثوق والتنفير قد يحصل مع الإصرار والإكثار ونحو ذلك . وأما اللمم الذي يقترن [32] . به التوبة والاستغفار ، [ أو ما يقع بنوع من [ ص: 408 ] التأويل ، وما كان قبل النبوة فإنه ] [33] . مما ب ( فقط ) : فمما . يعظم به الإنسان عند أولي الأبصار . وهذا عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] [34] . قد علم تعظيم رعيته له وطاعتهم ، مع كونه دائما كان يعترف [35] . بما يرجع عنه [36] . من خطأ وكان إذا اعترف بذلك وعاد إلى الصواب زاد في أعينهم وازدادوا [37] . له محبة وتعظيما .
ومن أعظم ما نقمه الخوارج ( 7 على علي أنه لم يتب من تحكيم الحكمين ، وهم 7 ) [38] . وإن كانوا جهالا [ في ذلك ] [39] . [ فهو ] يدل [40] . على أن التوبة لم تكن تنفرهم ، وإنما نفرهم الإصرار على ما ظنوه هم ذنبا . والخوارج من أشد الناس تعظيما للذنوب ونفورا عن أهلها ، حتى إنهم يكفرون بالذنب ولا يحتملون لمقدمهم ن [41] . ذنبا ، ومع هذا فكل مقدم لهم تاب عظموه وأطاعوه ، ومن لم يتب عادوه فيما يظنونه ذنبا [42] . وإن لم يكن ذنبا .
[ ص: 409 ] فعلم أن التوبة والاستغفار لا توجب تنفيرا ولا تزيل وثوقا ، بخلاف دعوى البراءة مما يتاب منه ويستغفر ، [ ودعوى ] السلامة [43] . مما يحوج الرجوع ب [44] . إلى الله واللجأ [45] . إليه ، فإنه هو الذي ينفر القلوب ويزيل الثقة . فإن هذا لم يعلم أنه صدر إلا عن كذاب ، أو جاهل ، وأما الأول فإنه يصدر [46] . عن الصادقين العالمين .
[47] . [ ومما يبين ذلك أنه لم يعلم أحد طعن في نبوة أحد من الأنبياء ولا قدح في الثقة به بما دلت عليه النصوص التي تيب منها ، ولا احتاج المسلمون إلى تأويل النصوص بما هو من جنس التحريف لها ، كما يفعله من يفعل ذلك . والتوراة فيها قطعة من هذا ، وما أعلم أن بني إسرائيل قدحوا في نبي من الأنبياء بتوبته في أمر من الأمور ، وإنما كانوا يقدحون فيهم بالافتراء عليهم كما كانوا يؤذون موسى عليه السلام ، وإلا فموسى قد قتل القبطي قبل النبوة وتاب من سؤال الرؤية وغير ذلك بعد النبوة ، وما أعلم أحدا من بني إسرائيل قدح فيه بمثل هذا .
وما جرى في سورة " النجم " من قوله : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى ، على المشهور عند السلف والخلف من أن ذلك جرى على لسانه ، ثم نسخه الله وأبطله [48] ، هو من أعظم المفتريات على قول [ ص: 410 ] هؤلاء ، ولهذا كان كثير من الناس يكذب هذا وإن كان مجوزا عليهم غيره : إما قبل النبوة وإما بعدها ، لظنه أن في ذلك خطأ في التبليغ ، وهو معصوم في التبليغ بالاتفاق . والعصمة المتفق عليها أنه لا يقر على خطأ في التبليغ بالإجماع ، ومن هذا فلم يعلم أحد من المشركين نفر برجوعه عن هذا ، وقوله : إن هذا مما ألقاه الشيطان ، ولكن روى أنهم نفروا لما رجع إلى ذم آلهتهم بعد ظنهم أنه مدحها ، فكان رجوعهم لدوامه على ذمها ، لا لأنه قال شيئا ثم قال : إن الشيطان ألقاه . وإذا كان هذا لم ينفر فغيره أولى أن لا ينفر .
وأيضا ، فقد ثبت أن النسخ نفر طائفة كما قال : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) [ سورة البقرة : 142 ] ، وقوله : ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا ) [ سورة النحل : 101 - 102 ] ، فالتبديل الذي صرحوا بأنه منفر ونفروا به عنه لم يكن مما يجب نفيه عنه ، فكيف بالرجوع إلى الحق الذي لم يعلم أنهم نفروا منه ، وهو أقل تنفيرا ؟ ! لأن النسخ فيه رجوع عن الحق إلى حق ، وهذا رجوع إلى حق من غير حق .
ومعلوم أن الإنسان يحمد على ترك الباطل إلى الحق ما لا يحمد على [ ص: 411 ] ترك ما لم يزل يقول إنه حق [49] . . وإذا كان جائزا فهذا أولى ، وإذا كان في ذلك مصلحة ففي هذا أيضا مصالح عظيمة ، ولولا أن فيها وفي العلم بها مصالح لعباده لم يقصها في غير موضع من كتابه . وهو سبحانه - وله الحمد - لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر معه توبته لينزهه عن النقص والعيب ، ويبين أنه ارتفعت منزلته وعظمت درجته وعظمت حسناته وقربه إليه بما أنعم الله عليه من التوبة والاستغفار والأعمال الصالحة التي فعلها بعد ذلك ، وليكون ذلك أسوة لمن يتبع الأنبياء ويقتدي بهم إلى يوم القيامة .
ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز دل على أن يوسف لم يذنب أصلا ، في تلك القصة كما يذكر من يذكر أشياء نزهه الله منها بقوله تعالى : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) [ سورة يوسف : 24 ] ، وقد قال تعالى : ( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) [ سورة يوسف : 24 ] . والهم - كما قال الإمام أحمد رضي الله عنه - : همان ، هم خطرات وهم إصرار . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن الله تعالى يقول إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة كاملة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا إلى سبعمائة ضعف ، وإذا هم بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من جراي " [50] . [ ص: 412 ] فيوسف - عليه الصلاة والسلام - لما هم ترك همه لله ، فكتب الله به حسنة كاملة ولم يكتب عليه سيئة قط ، بخلاف امرأة العزيز فإنها همت وقالت وفعلت ، فراودته بفعلها وكذبت عليه عند سيدها واستعانت بالنسوة ، وحبسته لما اعتصم وامتنع عن الموافقة على الذنب ولهذا قالت : ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ) [ سورة يوسف : 53 ] ، وهذا من قولها كما دل عليه القرآن ، ليس من كلام يوسف عليه السلام ، بل لما قالت هذا كان يوسف غائبا في السجن لم يحضر عند الملك ، بل لما برأته هي والنسوة استدعاه الملك بعد هذا وقال : ( ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ) [ سورة يوسف : 54 ] . وأما من ذكر الله تعالى وتبارك عنه ذنبا كآدم عليه السلام فإنه لما قال : ( وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) [ سورة طه : 121 ، 122 ] وقال : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) [ سورة البقرة : 37 ] . [ ص: 413 ] وقال تعالى عن داود عليه السلام : ( وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ) [ سورة ص : 24 ، 25 ] . وقال لموسى عليه السلام والصلاة : ( إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ) [ سورة النمل : 10 ، 11 ] ومن احتج على امتناع ذلك بأن الاقتداء بهم مشروع ، والاقتداء بالذنب لا يجوز . قيل له : إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه ، لا فيما نهوا [51] . عنه ، كما أنه إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه ولم ينسخ ولم ينسه فيما نسخ ، وحينئذ فيكون التأسي بهم مشروعا مأمورا به لا يمنع وقوع ما ينهون عنه ولا يقرون عليه لا من هذا ولا من هذا ، وإن كان اتباعهم في المنسوخ لا يجوز بالاتفاق . ومما يبين أن النسخ أشد تنفيرا أن الإنسان إذا رجع عن شيء إلى آخر ، وقال : الأول الذي كنت عليه حق أمرني الله به ، ورجوعي عنه حق أمرني الله به ، كان هذا أقرب إلى النفور عنه من أن يقول : رجعت عما لم يأمرني الله به ، فإن الناس كلهم يحمدون من قال هذا . وأما من قال : أمري بهذا حق ونهيي عنه حق ، فهذا مما نفر عنه كثير من السفهاء ، وأنكره من أنكره من اليهود وغيرهم .


