الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

البشارات النبوية وأثرها في تخفيف الابتلاء

البشارات النبوية وأثرها في تخفيف الابتلاء

البشارات النبوية وأثرها في تخفيف الابتلاء


النفس البشرية تتعلق بما تكتسبه من أنواع المنافع المادية كالحصول على المال، أو اللذة، أو غير ذلك من االمكاسب المادية أو المعنوية، ولأن هذه النفس خلق من خلق الله تعالى، يعلم أغوارها وما جبلت عليه، فلم يجعل التكليف مجردا عن ميول هذه النفس وطبائعها، بل رتب على التكاليف الشرعية كثيرا من الوعود المرغوبة للنفوس، حتى تستمر في الكسب والعمل، وتبقى في دائرة الامتثال، فالمسلم يعيش على كثير من البشارات والمرغبات، يتمثل ذلك بالوصول إلى كل ما ترغب به النفس من النعيم المطلق، واللذات الخالدة، وبهذه الطريقة تحتمل النفس مشاق التكليف وصعوبة الابتلاء، وسنقف على نماذج من البشارات النبوية حتى يتضح حضور هذا المبدأ جليا في الأحاديث النبوية.

ولما من سنن الله التي كتبها وأمضاها على الخلق تعرضهم لأنواع الابتلاءات، وهي بمثابة الامتحانات التي يبرهن المسلم من خلالها على إيمانه ويقينه وعبوديته وتسليمه لأقدار الله، ومن أعظم ما يواجه به المسلم تلك التجارب الصعبة بعد الأخذ بأسباب دفعها هو الاستبشار بالوعود التي تنتظره إن هو صبر واحتمل، وعلى قدر استبشاره واستحضاره لذلك يهون عليه كثير من البلاء، ولذلك وردت أحاديث كثيرة لا يمكن حصرها بشارات في باب الابتلاء، لما علم الله من ضعف هذا الإنسان، وفقوى جانبه بما تتطلع له النفوس المؤمنة بالجزاء الأخروي، فكلما ضعفت نفسه وكادت أن تجزع ذكرها بجزاء الصابرين وموعود المتقين.
البشارات النبوية لمن ابتلي بالفقر:
يعد الفقر من أشد الابتلاءات التي يتعرض لها المسلم في حياته، ولما كان الفقراء بالنسبة للأغنياء هم الأكثر، كان لا بد من إيناس قلوب المؤمنين الصابرين على قساوة الابتلاء بالفقر، وتسكين نفوسهم لحكمة الله فيما يبسط ويقدر من الأرزاق، وهذا لا يعني الرضا بالفقر مع القدرة على دفعه، فالإسلام يشجع على الكسب الحلال، والإنفاق منه في وجوه الخير، لكن ما دام المسلم في ابتلاء منه فهذه بعض البشارات:
أ. دخول الجنة قبل الأغنياء: في سنن أبي داوود عن أبي سعيد الخدري، قال: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ، فسلم، ثم قال: «ما كنتم تصنعون؟» قلنا: يا رسول الله، إنه كان قارئ لنا يقرأ علينا، فكنا نستمع إلى كتاب الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أُمرت أن أصبر نفسي معهم» قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا ليعدِل بنفسه فينا، ثم قال: بيده هكذا، فتحلقوا وبرزت وجوههم له قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحدا غيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذاك خمس مائة سنة».
ب. أكثر أهل الجنة من الفقراء: ففي الصحيحين عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء». ولا يخفى أن المقصود بذلك هم الفقراء الصابرون على الابتلاء، القائمون على طاعة الله، فيكون فقرهم يوم القيامة مما يفضلون بها على الأغنياء الذين تساووا معهم في العمل.
ج. الفقراء أشبه الناس بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اختار لنفسه وأهل بيته حياة الفقراء والمساكين وكان المال يأتيه وافرا فيفرقه على المسلمين، ففي الصحيح عن الأسود عن عائشة قالت: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض". وتقول أيضا: "ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر". وتقول: "كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم وحشوه من ليف". ويقول قتادة: كنا نأتي أنس بن مالك وخبازه قائم، وقال: كلوا، فما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرققا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط".
د. الفقراء والضعفاء عموما هم من أسباب النصر والرزق لفضلهم عند الله: ففي صحيح البخاري عن مصعب بن سعد، قال: رأى سعد رضي الله عنه، أن له فضلا على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ابغوني الضعفاء، فإنما تُنصرون وتُرزقون بضعفائكم». وهذه من البشارات التي تتضمن الشهادة للضعفاء والفقراء بأن قلوبهم أكثر إخلاصا، ودعواتهم أقرب للإجابة لفراغها مما يشغلها، ولذلك زاد النسائي: «بدعواتهم وصلاتهم»
هـ. الفقر مع الصبر وصلاح العمل علامة على صدق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي سنن الترمذي عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله والله إني لأحبك. فقال له: «انظر ماذا تقول»، قال: والله إني لأحبك، ثلاث مرات، فقال: «إن كنت تحبني فأعد للفقر تجفافا، فإن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه». ومعنى تجفافا بكسر التاء: أي درعا ووقاية، والمعنى أن دعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم دعوى كبيرة، فالصبر على الفقر لأجل الله برهان يصدق تلك الدعوى، وآخر الحديث يدل على أن الولاء مقرون بالبلاء، فمن صدقت محبته ابتلي بالفقر ليزيد فضله وتتحقق ولايته.
البشارات النبوية لمن ابتلي بالمرض:
فمن سنن الله في هذه الدنيا التي لا تتخلف تقلبات أحوال الإنسان ما بين الضراء والسراء، والمرض والعافية، حتى في الحال الواحدة لا يخلو الحال من الأمرين، فالإنسان يحمل الصحة والمرض في آن واحد، ويكون في سراء من جهة وفي ضراء من جهة أخرى، والصحيح اليوم هو المبتلى غدا، ولا بد أن ينال كل حي حظه من ذلك، فالبلاء بالمرض ملازم للإنسان بين متقدم ومتأخر، وصابر ومتجزع، وهذا البلاء مع الصبر من تمام حكمة الله وفضله على المسلم، فهو يطهر عبده من ذنوبه في الدنيا، ويكتب له المنازل العالية في الجنة، ولذلك جاءت النصوص النبوية وافرة في بشارة أهل الأمراض والأسقام ولا سيما المزمنة منها، فيسكن بذلك قلب المؤمن، وترضى نفسه تمام الرضى.
في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله عز وجل إذا ابتلى عبدا بالبلاء بعث الله إليه ملكين فقال لهما: انظرا إلى ما يقول عبدي لعواده حين يعودونه، فإن كان قد قال خيرا،ولم يشْكُ إليهم الذي به من البلاء قال الله لملائكته: أبدلوا عبدي بلحمه خيرا من لحمه، وبدم خير من دمه، وأخبروه إن أنا قبضته أدخلته الجنة، وإن أنا أطلقته من وثاقه فليستأنف العمل ».
وفيه عن أبي هريرة قال: « إذا مرض العبد المسلم نودي صاحب اليمين: أن أجْرِ على عبدي صالحَ ما كان يعمل، ويقال لصاحب الشمال: أقْصِر عن عبدي ما كان في وثاقي ». فقال رجل عند أبي هريرة: يا ليتني لا أزال ضاجعا، فقال أبو هريرة: " كره العبد الخطايا " وفي مسند الإمام أحمد عن معاوية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه، إلا كفر الله عنه به من سيئاته». وفي شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صداع المؤمن، أو شوكة يشاكها، أو شيء يؤذيه يرفعه الله بها يوم القيامة درجة، ويكفر بها عنه ذنوبه».
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، ثم صبر عوضته بها الجنة » أي: بعينيه. وفيهما أيضا عن عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف فادع الله لي. فقال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك». فقالت: أصبر، ثم قالت: فإني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها.
وفي مسند الإمام أحمد وغيره عن إبراهيم بن مهدي السلمي - عن أبيه، عن جده - وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة، لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبَّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى».
حتى إن بعض أهل العلم جعل مجرد حصول المرض مكفرا للذنوب، حملا للأحاديث على ظاهرها من العموم، وقد نقل ذلك ابن حجر في الفتح قال: ويحتمل أن يكون معنى الأحاديث التي ظاهرها التعميم أن المذكورات صالحة لتكفير الذنوب، فيكفر الله بها ما شاء من الذنوب، ويكون كثرة التكفير وقلته باعتبار شدة المرض وخفته، ثم المراد بتكفير الذنب ستره أو محو أثره المرتب عليه من استحقاق العقوبة، وقد استدل به على أن مجرد حصول المرض أو غيره مما ذكر يترتب عليه التكفير المذكور سواء انضم إلى ذلك صبر المصاب أم لا، وما ورد منها مقيدا بالصبر فهو للحصول على مزيد الثواب المخصوص، لا لمطلق الثواب. انتهى.

وفي سنن الترمذي عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض»، قال الصنعاني في التنوير: البلاء خيرٌ محضٌ للعبد، أما في الدنيا فلأنها تنكسر شَرِّيَّتُه النفسانية، وتخلع عنه ثوب الكبرياء، ويلتذُّ بمقدار النعمة التي يعقب البلاء، فلولا المرضُ ما عرفَ مِقدار العافيةِ، ولولا الفقرُ ما عرف مقدار الغِنى، ولولا الخوف ما عرف مقدار الأمن، وكلُّ نعيم في الكون ما عرفت نعمتهُ إلا بضدِّه، كما قيل: وبضدها تتبيَّن الأشياء، وأما في الآخرة فلِما أعد الله لأهل البلاء من المثوبة التي يتمنّى معها أهل العافية لو قرضوا بالْمَقاريض في الدنيا. انتهى.

وفي السنة النبوية بشارات كثيرة، وترغيب لأهل البلاء بالصبر والرضا، ولا يخفى ما في ذلك من تطمين وإيناس وترضية، ومن خلالها يدرك المؤمن أن البلاء ليس مقصوده الإيلام بالفقر أو المرض، ولا الانتقام من العباد، فالله غني ذلك، وأرحم من أن يعذب عباده، بل يدرك المسلم أن المقصود هو تكفير الذنوب، ورفعة الدرجات، والوصول لرضوان الله، وكفى بها من منافع لا يفنى أثرها، فقد يقبل الإنسان في بعض الأحوال كثيرا من العناء والتعب والنصب لأجل الحصول على منافع دنيوية زائلة وقد تكون متوهمة الحصول، فكيف لا يحتمل المسلم البلاء المؤقت للوصول إلى النعيم الأبدي المؤكد، فمن اطمأن لموعود الله هانت عليه كثير من ابتلاءاته، واستثمر فيها أفضل استثمار.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة