الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حديث الوصية

حديث الوصية

حديث الوصية

تمتد آمال الأحياء بعيداً دون نهاية، لكن سرعان ما تتبدد كل تلك الآمال أمام حقيقة صادمة وهي الموت، ومما يزيد الأمر خطورة هو عنصر المفاجأة والمباغتة، مما يستدعي من الأحياء دوام اليقظة والانتباه، وأن يكونوا على أهبة الاستعداد في كل أحوالهم، لأجل ذلك شرع للحي أن يكتب وصيته حال حياته لما يمكن أن يتدارك بعد وفاته، فيوصي بديونه وبحقوق الناس التي عليه ولا يرجو لها سدادا في حال حياته، وقد يكون صاحب مال كبير فيوصي ببعض ذلك المال وصية تنفذ بعد موته.

روى مسلم عن سعد ابن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: عادني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع من وجع أَشْفَيْتُ منه على الموت فقلت: يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» قلت: أفأتصدق بشطره قال «لا الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في فِيِّ امرأتك».

ومعنى «أشفيت على الموت» أي : قاربته وأشرفت عليه.

تعريف الوصية:

الوصية هي: تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت.

أنواع الوصية بحسب الحكم:

الوصيةُ الواجبة: وهي فيما إذا كان عليه حق أو دين، سيما الحقوق والديون التي لا بينة عليها.

الوصية المستحبة: بأن يوصي بإخراج جزء من ماله بعد الموت رغبة في الثواب، وسيأتي ما هو القدر المأذون فيه من ذلك.

الوصية المحرمة: وهي الوصية بما زاد عن الثلث في حال المرض.

حكم الوصية:

يختلف الحكم باختلاف الاعتبارات والأنواع، ولذلك يقول الفقهاء إن الوصية تدور عليها الأحكام الخمسة:

فتجب فيما إذا تعلق بذمته حق لله كالكفارة أو الزكاة، أو حق لآدمي كالدين والوديعة وغيرها.

وتستحب الوصية لمن كان عنده مال زائد عن حاجة ورثته، فيوصي بما تيسر من أعمال البر والقرب والخير، بما لا يتجاوز الثلث، والأولى – كما ذكر أهل العلم – أن لا يستوعب الثلث بالوصية وإن كان غنيًا، لقوله صلى الله عليه وسلم «والثلث كثير»، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث والثلث كثير» رواه البخاري.

وتكون الوصية مكروهة إذا كان المال قليل ويحتاج إليه الورثة، ويكون المستحب في حق من هذا حاله إغناء ورثته من بعده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»,
قال الشعبي رحمه الله: ما من مال أعظم أجراً من مال يتركه الرجل لولده، ويغنيهم به عن الناس.

وتكون الوصية محرمة في أحوال كثيرة: كما إذا أوصى لوارث، أو تجاوز بها الثلث، أو أوصى بفعل محرم كبناء كنيسة أو غيرها من الأعمال المحرمة.

وتكون مباحة إذا كان المال قليلا ولكن لا يحتاج إليه الورثة، ففي هذه الحال يباح له أن يوصي، ولكنه غير مستحب في حقه الوصية.

الحث على الوصية:

ورد في السنة الحث على الوصية مثل ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنها قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده».
وفي لفظ عند مسلم: «له شيء يريد أن يوصي فيه».

قال الشافعي: ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه، لأنه لا يدري متى تأتيه منيته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك.

زاد مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك إلا وعندي وصيتي».
وقد روى ابن ماجة وحسنه الألباني عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم».

نماذج من وصايا السلف:

روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أنس - رضي الله عنه - قال «هكذا كانوا يوصون: هذا ما أوصى به فلان بن فلان، أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
وأوصى من ترك بعده من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، وأن يطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، وأوصى إن حدث به حدث من وجعه هذا، أن حاجته كذا وكذا ...».

وروى الدرامي بسنده وصية الربيع بن خثيم وهي: «هذا ما أوصى بها الربيع بن خثيم وأشهد الله عليه، وكفى به شهيدًا وجازيًا لعباده الصالحين ومثيبًا، فإني رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - نبيًا، وإني آمر نفسي ومن أطاعني أن نعبد الله في العابدين، ونحمده في الحامدين، وأن ننصح لجماعة المسلمين».

مسائل تتعلق بتنفيذ الوصية:

مما ينبغي أن يعلم أن الوصية لازمة التنفيذ، فالموصَى إليه مطالب بتنفيذ وصية الموصِي، بخلاف ما يفعله بعض الناس من التفريط بوصايا الموتى؛ طمعاً في المال، أو محاباة لبعض الورثة، فحكم تنفيذ الوصية واجب يأثم الموصَى إليه بعدم تنفيذها أو تأخيرها إن كانت محددة بوقت؛ أو تبديلها والتلاعب بما فيها.

قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال القرطبي: والضمير في "إثمه" عائد على التبديل، أي إثم التبديل عائد على المبدِّل لا على الميت.

وقد أخرج أبو داود أن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أبي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين، وبقيت عليه خمسون رقبة، أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لو كان مسلماً فأعتقتم عنه، أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه بلغه ذلك».

ومن الأحكام المتعلقة بتنفيذ الوصية: أن قضاء الدين مقدم عليها؛ لقوله تعالى في سورة النساء: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ}.
وقد أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن سعد بن الأطول: أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً، فأراد أن ينفقها على عياله، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه» فقال: يا رسول الله، قد أديت عنه إلا دينارين، ادعتهما امرأة وليس لها بينة، قال: «فأعطها فإنها محقة».
وقال البخاري -رحمه الله-: «وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية».

وليحذر الموصِي من قصد الإضرار بأحد من ورثته، فإن الوصية عمل يراد به القربة، والقربة لا تصلح إذا كانت مضارة وظلما لأحد، قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ}.
قال ابن كثير _رحمه الله_: «لتكن وصيته على العدل لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم أحد الورثة أو ينقصه، أو يزيده على ما فرض الله له من الفريضة، فمن سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمه وشرعه».

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة